ملاحظات اجتماعية حول الأغنية العربية المصورة في التلفزيون العربي

الجمعة، 28 نوفمبر 2014



ملاحظات اجتماعية حول الأغنية العربية المصورة في التلفزيون العربي

د. فاطمة عبد الله ابراهيم السليم*[1]
    
 يناقش هذا المقال بشكل رئيس الأغنية العربية المعاصرة والمصورة على شكل مقاطع فيديوVideo Clip Songs والتي تنشرها محطات التلفزيون العربية ليشاهدها الناس في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط . والنية هنا ليس طرح الموضوع بشكل علمي متكامل الاركان منهجياً ونظرياً ، ولكن الهدف هو القاء الضوء قدر المستطاع على بعض الجوانب الثقافية والاجتماعية ، وتقديم بعض التحليلات السوسيولوجية للاغنية العربية المصورة كما لاحظتها خلال شهر من الملاحظة والمتابعة عندما كنت في إجازة في السعودية ( من 9 سبتمبر الى 7 اوكتوبر 2013) . 

     يعتقد كثيرون أن الغرض من مشاهدة التلفزيون هو تمضية الفراغ وازجاء الوقت والاسترخاء ، والكف عن عمل أي شيىء سوى البحلقة في الشاشة العريضة التي تومض بالاضواء والالوان . والحقيقة أن مشاهدة التلفزيون تتعدى بكثير هذه الفكرة القديمة والساذجة . فالتلفزيون جهاز خطير يعيش معنا في بيوتنا بشكل دائم وطوال العمر  منذ سنوات الطفولة الاولى الى ما بعد تاريخ الوفاة ، وبمرور السنوات نَمَتْ بيننا وبين التلفزيون صحبة قوية وعشرة طويلة لا تنتهي بتغير المكان ، ولا بمنافسة قنوات التواصل الانترنيتي التي صارت تأخذ حيزاً من وقت الناس . فحتى هذه القنوات لم تسلب من التلفزيون قيمته المتجدده كصديق قديم ، وكرفيق مخلص يقدم كل ما لديه بمقابل مادي بسيط ، وفي أحايين كثيرة يقدم ما لديه بدون مقابل . كما صرنا في الوقت الحاضر نقضي معه من الاوقات ما هو أطول بكثير من الوقت الذي نمضيه مع أقاربنا أو مع جيراننا أو مع أصدقائنا أو بعض من أفراد اسرتنا أحياناً . وغني عن القول أن التلفزيون يقدم أعداداً لا حصر لها من البرامج والمنوعات والاخبار والتقارير والنشاطات الثقافية والاجتماعية والسياسية والتحليلات الاقتصادية والمالية ، بالاضافة الى برامج الترفيه كالرياضة والاغاني والموسيقى والمسابقات والتي تتوجه الى كافة أفراد المجتمع بكل فآته وتقسيماته .

      التلفزيون في وظائفه الثقافية والاجتماعية والسياسية والترفيهية يضع المشاهد في قلب التيارات الاجتماعية  والثقافية والسياسية التي يعيشها مجتمع معين في زمان ومكان معينين، كما وينقل المشاهد إلى جوهر الاحداث وتفاصيلها بالصوت والصورة والتحليل والتي تقع في أي بقعة من العالم ، كما تتغير البرامج والانشطة الاعلامية من حيث الشكل والمحتوى المطروح للمشاهدة بحسب ما يستجد في العالم من تقدم وتغير في هذه المجالات . والأهم من كل ذلك ومن وجهة نظر سوسيولوجية فإن التلفزيون أداة لتشكيل الوعي بالعالم ، ولاستدخال القيم ، وتكوين المفاهيم ، وصياغة المنظورات الخاصة بالعالم وبالحياة وبلورة اتجاهات الناس عن انفسهم وعن علاقاتهم الانسانية ، كما يتدخل التلفزيون في تشكيل الذوق العام سواء في الجوانب المادية او المعنوية حول مختلف جوانب الحياة . والدور الأهم الذي يقوم به التلفزيون أنه يساهم مساهمة كبرى في خلق وتشكيل الثقافة   Cultureكما وأنه يختار أجزاء من المنظومة الثقافية ( من القيم والمعتقدات والمنظورات والاتجاهات والأفكار ) ويعيد انتاجها ، أو يقدمها بشكل جديد ، أو يبرز جزء من المنظومة الثقافية ويلقي عليها الضوء ويؤكد على أهميتها في مجتمع معين ويعمل في الوقت نفسه على القاء جوانب أخرى في الظل أو في سلة النسيان أو التجاهل . التلفزيون إذن أداة لخلق الثقافة وتشكيلها أو إعادة تشكيلها واختيار العناصر التي تدخل او لا تدخل فيها . ولن أطيل هنا الكتابة عن التلفزيون ووظائفة فهي معروفة لدى غالبية الناس ، كما أن التكرار قد يفضي الى الملل وفقدان الاهتمام بقراءة الموضوع .

    وحيث يتوفر أكثر من ألف قناة عربية أو ناطقة بالعربية في التلفزيون أثناء زيارتي للسعودية فقد كان هذا خياراً خصباً وميسوراً للمعرفة والاطلاع[2] ، حيث تكون شاشة التلفزيون نافذة أطل منها على ما يجري في العالم العربي الذي يمور بالأحداث والتغيرات المتلاحقة هذه الايام . هذا العالم العربي الذي أدمت فؤاده أشواك الربيع المزعوم ، وتورمت كبده بنتن الحرية الكاذبة ، وانتُهِبَ مستقبله كاملاً بسراب الوهم  الواعد بالديموقراطية والكرامة والرفاهية والاستقرار فإذا هو يسقط صريعاً للفوضى والتمزق واحتمالات التقسيم والتفتيت ، وتتكالب عليه تلك القوى المسعورة تنتهب استقرارة وأمنه وثرواته ومستقبل أجياله كاملة . هذا العالم العاثر في مكانه كلما تقدم خطوة الى الامام تراجع بعدها عشراً الى الوراء . وحيثما انتقلُ من قناة الى أخرى  من سوريا الى العراق الى لبنان الى اليمن الى السودان الى الصومال ، الى ليبيا الى تونس والجزائر والمغرب ، تطالعني صور الخراب والدمار أينما يممت . أرى جثث الاطفال والمدنيين في مصفوفات طويلة من الاكفان البيضاء ، وصور الجرحى والاجساد المسجاة مضرجة بالدماء في ردهات المستشفيات وفي ساحات المظاهرات وفي الميادين التي كانت ترفع شعارات التقدم والوحدة والكرامة والاستقلال . ومن قناة الى قناة تلاحقني صور البيوت الخراب ، والشوارع المسكونة بالدبابات والمتاريس ، وبوجوه الاولاد الصغار في سن الصبا مدججين بالبنادق والاسلحة ـ وحيثما تغيب صور الحرب والصراع في بعض الدول العربية تطل مكانها صور الفقر والجوع والتشرد والعوز الذي يقطع اوصال الحياة  في عدد آخر من البلدان العربية ، حيث تموت الحياة قبل ان تولد ، وتموت معها الآمال العراض بالحرية والكرامة والمستقبل . 

     لستُ انكرُ أن التحول الى محطات  الاغاني المصورة في مثل هذه الظروف يشعرني بوخز من الالم العميق والشعور بالذنب ـ ولكنني اهرب من عجزي ومن سطوة الضمير الى الوجه المقابل الآخر للحياة في المجتمع العربي ليس بدافع خالص للانسياق وراء حيلة سيكولوجية ساذجه للهرب والاحتماء من مشاهد الدمار والالم والعدم وانذباح الكرامة الانسانية تحت اقدام الفوضى العارمة ، ولكن لأنني أعترف بأنني مدفوعة بقوة غريزية داخلية قوامها الفضول السوسيولوجي الذي بات معجونا في دمائي منذ أن أصبحت عضوة رسمية في قسم علم الاجتماع بجامعة الملك سعود .
  
   والحق انني حينَ امضيتُ ساعاتاً طويلة في تجوال بين أكثر من ألف محطة تلفزيونية في بحث عن الاغاني المصورة  لم أكن أبحث عن التسلية والطرب ، أو عن تمضية الوقت ، أو عن نوع من الاغاني يوافق مزاج اللحظة التي كنت فيها ، كنت في الحقيقة أبحث عن أوسع مدى ممكن من المعرفة ومن استغوار المعاني الظاهرة والعميقة في الاغنية  العربية المصورة في الكلمة واللحن والآداء والصورة[3] . اريد ان اخترق عمق المعنى الذي يطرحه العالم العربي في فنونه ، هذه الفنون التي تنفجر من أعماق لا وعي العقل الجمعي لهذا العالم العربي كما ينفجر الصهير البركاني من أعماق الارض .

 قلبي يخفق شوقاً لقراءة واستغوار تلك المعاني الغنية الزاخرة التي تحملها الاغنية المصورة باعتبار أن الاغنية ليست الا شريحة حية من الثقافة العربية المعاصرة ، بما تحمله هذه الأغنية في أركانها الاربعة من الكلمة والآداء واللحن والصورة . فالآداء يحمل المعنى عبر تعريجات وتمويجات الصوت بين الارتفاع والانخفاض ، وفي النبرة يبرز المعنى او ينساب مختفياً خلف ظلال الكلمة المنطوقة ، يتعاضد المعنى وينبني في صورة عقلية مدركة من خلال ما تحمله الأغنية المصورة من دواعم للمعنى عبر الايماءات وتعبيرات الوجوه وحركات الاجساد وإشارات الأطراف ، وفي البيئة التي تتموضع فيها الأغنية وما تستوعبه هذه البيئة من الاثاث والوسائل المادية والاجهزة ، وما تبرزه من صور الازقة والشوارع والسيارات والمنازل أو البحر أو الطبيعة أو المزارع أو البراري كلها خصائص تضفي معاني مباشرة أو غير مباشرة سواء كان هذا التوظيف مقصوداً لدعم وإبراز المعنى الذي تطرحه الاغنية من خلال الكلمات أو قُصد فيه أن يكون خلفية في الاغنية فقط . 

      الأغنية المصورة من جانب آخر حمّالة لكم ثرّ وهائل من الرموز الظاهرة والباطنة تندغم هذه الرموز في اللغة المغناة المباشرة ، أوتنداح متسللةً الى ظلال الكلمات ، أو تترك التفسير مفتوحاً لعدد من المعاني المحتملة . توجد هذه الرموز تارة ظاهرة ومكثفة في الادوار التي يؤديها المغني أو بديله في الفيديو- أو في تبادل الادوار بين الرجال والنساء أحياناً – وكذلك توجد في الصور الماورائية والرسائل المندغمة تحت طبقات كثيفة من الايهام والاضمار . الأغنية العربية المصورة إذن هي أحد وجوه الانتاج الثقافي الذي يحمل بصمات الثقافة العربية في امتدادها الجغرافي الواسع من المحيط الى الخليج وفي امتدادها الزمني والتاريخي الموغل في القدم . الأغنية العربية المصورة بساط قد انتقش وجهه بخليط عجيب من المعاني المتماوجة على سطحه المخملي عارضاً من الصور والأشكال الفنية ما يستوعب كل تنويعات الثقافة العربية المعاصرة . 

هذا المقال لا يدعي كمال التجربة من حيث الشمول والاتساع والعمق والالمام بجميع الانتاج الفني الغنائي المصور فهذا هدف يستحيل على التحقيق على الاقل في ظل ظروف العمل الراهنة . فهذا المقال إذن ليس الا إطلالة عاجلة على شريحة حية من ثقافتنا المعاصرة  .  ومن أجل مزيد من التحديد ، فإن هذا المقال لا يشمل الكلمات المغناة في الأغنية المصورة الا بمقدار ضئيل جداً حينما يكون هناك حاجة الى ذكر بعض الكلمات ، ولكن التركيز في هذا  المقال هو على الصور والافلام القصيرة واللقطات التي تشكل خامةالأغاني الأساسية .

      وقبل الدخول في تحليل الملاحظات التي جمعتها عن الاغاني المصورة ، أودُّ أن أذْكُر عدداً من المداخل النظرية التي تسوّغ اختيار الاغنية العربية المصورة – دون غيرها- كموضوع لهذا المقال . ويمكن إيجاز هذا المدخل النظري في النقاط التالية:

1.    الأغنية المصورة بالفيديو لا تعكس واقعاً بحتاً ، وليست شريحة من الماضي المعاش فعلياً ولكنها مجرد تصور أو خيال" لمدلولات الكلمات يمتزج فيه الخيالي بالواقعي ، وتوظف فيه "ثيمات" أو مقتطفات من الواقع المعاش ليضعه مخرج الأغنية كخلفية تعمل معها أو من خلالها الأغنية المصورة ، وبذلك تنتقل المعاني من الدلالات المباشرة لكلمات الأغنية الى الصور التي تبثها الأغنية أثناء الغناء .

2.    حيث يستحيل إجراء التجربة الواقعية على البشر أو إخضاع سلوكهم للتحكم والتوجيه ، فإن الفن الذي يعمل من خلال الخيال المصور يمكن أن يعطينا شكلاً من أشكال التجربة البديلة[4] . ومن المعروف علمياً أن التجربة البديلة تكون أحياناً مفضلة على التجربة الواقعية الحية من عدة نواح ، حيث تلامس التجربة البديلة أعماق الإنسان وتتطرق الى عدد من الجوانب المتشابكة في حياة الفرد ، كما ويمكن أن تتسم بالمرونة فترسم نهايات معينة أو تضيف أحداثاً لم تقع أو تنقل التجربة الى مكان وزمان يختلفان عما كان بالفعل. 

3.    تشبه الأغاني المصورة أحلام اليقظة من حيث وظيفتها النفسية والاجتماعية . فأحلام اليقظة عبارة عن سلسلة من الأحداث يكون الحالم بطلها المطلق ، وتعطية تعويضاً وإشباعاً نفسياً يعوضه عن قسوة الواقع وجدبه بالمشاعر والاحداث ، إن العالم الواقعي عالم محكوم بقوى خارجية ومحاط بهالات من المحرمات والعوائق والحواجز واللاممكنات ، ومن ثم فهو عالم خال من المشاعر الدفّاقة ، ومن الأحداث البطولية ومن اعطاء الفرصة المرجوة للشخص الحالم لإثبات أناه الخاصة أمام الآخرين  بالطريقة التي تُشبع داخله نزوع وجودي معين . وهذا الجانب في الفن عموماً وفي الأغاني خصوصاً  يقربها كثيراً من عالم أحلام اليقظة وهذا ما يشرح جزءًا من سر تعلق الشباب والمراهقين وبعض ذوي الاحساس المرهف من الراشدين بالأغاني المصورة .  إن أحلام اليقظة تتفوق بلا شك على العالم الحقيقي في منح الرضى النفسي والاشباع ، كما تتميز بالقدرة على الخلق والابداع ، وكذلك بالقدرة على تكثيف الاحداث واختزالها في زمن قصير يتجاوز بمراحل ما يمكن أن يحدث في الحياة الواقعية . ومن هنا فالفن تجربة بديلة يكون فيها الفنان بطلاً يسقط صورته وصورة من معه على المقاطع المصورة في الأغنية ، فهو يطرح الصورة ويحدد المعنى الذي يريد إيصاله الى الناس. 
ولعله من نافل القول الإشارة هنا الى الدور النفسس-اجتماعي للفن في كونه يساعد على تفريغ الطاقات المحتبسة ، وفي فك الاختناقات العسرة ، وفي أيجاذ منفذ ليس مقبول فقط وإنما منفذ ابداعي يساعد على التفريج والتنفيس ,من هنا فإن المجتمعات التي تحتفي بالفن وتتفهم دوره الحيوي في حفظ التوازن الاجتماعي وفي الادماج الاجتماعي لهي مجتمعات تعيش ظروفاً أقل عرضة للهزات والتمزقات التي تحدث داخل المجتمع الواحد.

4.    اذا كانت الأغنية المصورة هي نوع من " الفنتازيا" أو أحلام اليقظة فهي تعمل من خلال ثلاث مقومات وهي : الحرية ، والخلاص ، وعمل الإرادة[5] . فالحرية في العمل الفني تعني انعتاقه وانعتاق أبطالة من قيود الحياة الواقعية ، ومن قيود الزمان والمكان ، كما تفسح المجال للتحليق في عوالم لا يمكن أن تتطابق مع الواقع أو تكون جزءً منه . فالمغني يمكن أن يصور نفسه على أنه عاشق لفتاة من قبيلة من الهنود الحمر ، فتجده يأكل معهم ويشاركهم رحلات الصيد ويرقص معهم رقصة الشمس ، وهذا كله بالطبع مجرد خيال لم يحدث واقعياً . ويمكن أن تتجاوز الأغنية الحواجز العنصرية في مجتمع معين كحواجز اللون والطبقة والعرق والموطن الأصلي وغيرها من فوارق موجودة في العالم الواقعي . 
أما الخلاص فيعني الانعتاق من الجاذبية ، ومن قوانين الطبيعة ، فترى الممثل في حركة بطيئة أو سريعة أو طائراً بين الغمام ، أو زوجاً لفتاة من عرق أو لون آخر وهكذا ينعتق الفن من محددات الواقع وموانعه ،  كما يعني التغيير الارادي لمجرى الأحداث ليحل الأمل محل اليأس وتنفتح الخيارات المغلقة أمام الشخص كما هي في الحياة الواقعية ، فترى المغنى الذي يمثل دور عاشق يائس تننتهي به الأغنية المصورة على أنه عريس يزف للفتاة التي أحبها ، وهكذا فالاغنية تطرح نوعاً من الخلاص الفنتازي الذي لا يتحقق الا من خلال الفن . 
أما عمل الارادة فهو لبّ الفنتازيا الفنية حيث يتم تكييف جميع الظروف المادية ، وتكييف الأحداث لتنصاع للتعبير عن مضمون الأغنية كما رآه المخرج . فكل ما تحويه الأغنية إذن منذ لحظة ابتداءها الى نهايتها هو عمل مدروس ومتفق عليه مسبقاً بكل ما تكتنفه من الأحداث والدقائق والتفاصيل .  وبناء على هذه الأركان الثلاثة الحرية والخلاص وعمل الإرادة كانت الأغاني في كثير من حالات الاختناق الواقعي وفي حالات القنوط واليأس والشعور بالعدم والعجز واللاارادة تعمل نفسياً عمل المهدئات التي تحمل النفس بعيداً عن واقعها المزري أو المميت .

5.    تتميز الأغنية المصورة بأنها عدسة ثلاثية الأبعاد ، أو أنها تشبه عين الذباب الذي يحوي ملايين من الخلايا البصرية التي تتوزع على السطح المكوّر للعين في كل جانب من جوانب الرأس . وهذه العدسة ترى كثيراً من التفاصيل في مختلف الاتجاهات والأبعاد . ومن هنا فإن وقع أغنية معينة أو المعاني التي تحملها الصور المختلفة فيها تتيح عدداً من التفسيرات والمنظورات المتداخلة ، المتسقة فيما بينها أو المتعارضة أحياناً ، كما يختلف تأثيرها وتفسيرها من شخص لآخر.  

6.    الأغنية المصورة على شكل مقاطع فيديو هي بالأساس مجموعة من الصور والمعاني يخلقها ويجسدها أربعة أشخاص : مؤلف الكلمات ، والملحن ، والمغني ، ومخرج مقاطع الفيديو . فالمعاني تصاغ أولاً في كلمات من الشعر المقفى ، ثم تصاغ على شكل لحن يقوم بتأديته مغن أو مغنية ، ثم يقوم المخرج أخيراً بتحويل الأغنية من معان عقلية تحملها كلمات الأغنية الى صور بصرية تحمل تصور المخرج للمعاني التي تحملها الأغنية ، أو الى الأجواء التي يعتقد بأنها تعبر أكثر عن خصوصية الأغنية .
  
7.    من الناحية التاريخية ، فإن الاغنية المصورة كانت جزء من تراث السينما أو المسرح في المجتمع الأوربي والأمريكي الى نهاية الحرب العالمية الثانية ، وكانت الأغنية عبارة عن استراحة قصيرة تتخلل الأفلام الطويلة وتنضوى تحت المعنى العام الذي يحمله الفيلم ، ثم ما لبثت الأغنية المصورة أن انفصلت عن الأفلام وأصبحت صناعة قائمة بذاتها ، وأصبح العكس هو الصحيح ، فالاغنية المصورة تحمل الآن داخلها فيلماً قصيراً أو مقطعاً من مقاطع الحياة في مشهد أو مشاهد تخدمها وليس العكس . والأغنية المصورة بهذا التطور هي جزء من منظومة الثقافة الرأسمالية في المجتمع الغربي الحديث ، حيث أن توظيف الصورة والاعتماد على الخيال والابهار والاعتماد على ممثلين يتميزون بالوسامة أو الجمال الشكلي أصبحت جوانب أساسية في تسويق الأغنية وفي دعم قيمتها الربحية في السوق . ومن هنا تعتمد الأغنية بأقصى ما تستطيع على جذب المشاهد عن طريق اختيار اللقطات أو تنبيه الغرائز أو الاعتماد على الخدع البصرية والأضواء وما إلى ذلك .

8.    تنظر الثقافة العربية ( الرسمية منها والشعبية ) نظرة ازدراء للفنون ، كما وأن هناك نوع من التهميش والنظرة المستخفة او المحتقِرِة للغالبية العظمى من الفنون في الثقافة العربية المعاصرة ، وهذا ناتج عن عوامل تاريخية حيث ارتبط الغناء والفن بطبقة العبيد والجواري في التاريخ العربي ، كما تم ربطه من جانب آخر بجلسات الشراب والمجون التي حفل بها المجتمع العربي وخاصة خلال العصر العباسي والعصر الاموي في الاندلس في بعض الفترات ، وما تلاهما من عصور الانحطاط المظلمة . أما الآن وبسبب هذه الارتباطات اللاواعية في العقل الجمعي العربي والذي مازال يحتفظ بهذه الجذور فهذا يفسر وجود نظرة محافظة ضيقة تعجز عن التكيف مع الواقع الاعلامي المنفتح ومعطياته من جانب ، أو ناتج عن نظرة رافضة بشكل قطعي وحاسم لأي عنصر أجنبي مستورد من الحضارة الاوربية الراهنة باعتبارها حضارة مستعمِرة (بكسر الميم) ومخضِعة في الجانب الآخر .

كما يضاف الى ذلك النظرة التي يحملها غالبية الناس والتي مؤداها أن الفنون ليست إلاّ الوجه " المارق " من الثقافة ، وهي التي تستعصي على المطابقة  Conformity  والمسايرة والتجانس وعلى التحكم والاخضاع للقيم والموروث والمرغوب فيه[6] . كما أن ارتباط الفن بالترفيه وقضاء وقت الفراغ  والقضاء على الملل كان عاملاً آخر من عوامل التهميش والاستخفاف في النظرة الاجتماعية الى الفنون ومنها الأغاني . والأهم من كل ذلك في نظري أن هذه المواقف السلبية من الفنون جميعها تكون مدعومة من الأنظمة الرسمية والأبنية " العلوية" في بعض المجتمعات والتي تدرك تمام الادراك أن الفنون أداة تغيير كبير للواقع بما تحمله من أفكار ورؤى وتصورات لما " يجب " أو "يمكن" أن يكون عليه الواقع في مجتمع معين . فالطبيعة الخيالية  " الفنتازية" للفنون والتي تجعلها قادرة على تخطى موانع الواقع ومحرماته وتغربل إمكانياته كما وتحاكم أو تُساءل أبنية القوة والنفوذ فيه تجعل الفنون دائماً مصادر حذر أو توجس تستلزم استنفار كل القوى لمجابهتها وإخضاعها أو فرض رقابة صارمة عليها من حيث الشكل والمحتوى أو صدها وتحييدها او منعها في بعض الأحيان. 

9.    الفنون إذن – ومنها الأغنية المصورة – هي وسائط ثقافية تعمل على تشكيل الوعي واللاوعي الجمعي للناس . والمعاني التي تطرحها الأغنية من خلال الكلمة والصورة والتمثيل قادرة كل القدرة على النفاذ عبر البصر والسمع والحواس لتتسلل من سطح الوعي الى أعماق المتلقي وتستقر في ذاكرته ووجدانه بحيث تُساهم هذه الصور والمعاني في تشكيل وعيه وصياغة سلوكه وفي توجيهه ورسم أهدافه وفي إضفاء صورة مثالية لما ينبغي أن يكون عليه العيش في مجتمع معين.  ومن هنا فإن وجود قراءة نقدية لوضع الأغنية المصورة في العالم العربي لهو خطوة نحو استغوار العلاقة بين الفن والمجتمع ، وبين الواقع المحكوم بالقوانين والقيم والأعراف والمتواضعات وبين الخيال الحر المنطلق والعابر والمتجاوز لكل هذه المعطيات . 

10.                       الأغنية المصورة تخاطب العقل والوجدان معاً ، وتتركز غالبية موضوعاتها حول العلاقات الانسانية ، وهي بذلك تلامس وتراً حساساً من أوتار الحياة البشرية ، وتطرح منظوراً ثقافياً لهذه العلاقات . وهي بذلك تحاول أن توجه هذه العلاقات نحو مسار معين ، وهي تنجح في ذلك نجاحاً منقطع النظير أكثر من أي وسيط آخر. وإذا كانت العلاقات البشرية والانسانية على وجه الخصوص ذات طبيعة زئبقية سيالة غير ثابته فالأغنية تعمل هنا عمل الكاميرا التي تحاول دائماً تثبيت الوعي الانساني على أجزاء من العلاقات دون غيرها ، وتحاول تجميد بعض اللحظات ، أو تكبير بعض الزوايا ، والتركيز على بعض الجوانب دون غيرها متدخّلة في ذلك بالطريقة التي يعي فيها الناس ويدركون فيها وجودهم وطبيعة علاقاتهم بعضم ببعض.  

    وبعد هذه المقدمة النظرية أود الانتقال الآن الى الجوانب المنهجية التي ارتكز عليها المقال . وأهم الحدود المنهجية إعتماد الملاحظات التي سأوردها هنا على الاغاني المصورة التي طرحتها قنوات التلفزيون العربية خلال الفترة الزمنية التي كنتُ فيها في السعودية والتي أشرتُ اليها في بداية المقال ، وأهم هذه القنوات : قناة وناسه ، وقناة روتانا موسيقى ، وقناة روتانا كليب ، وقناة ميوزيك بلص ، وقناة مزازيك ، وقناة أوتار ، وقناة القيثارة ، وقناة انفينيتي، وقناة ميلودي ، وقناة غنوة ، وقناة نجوم . هذه القنوات كنت ازورها بشكل متقطع بحسب الظروف ، كما أن هناك قنوات كنت أشاهدها أكثر من غيرها وهي : قناة روتانا كليب[7] ، وقناة روتانا[8] موسيقى ، وقناة وناسه وقناة ميوزك بلص[9]. وتقدم هذه القنوات أغاني عربية متنوعة من الخليج الى المحيط ، معظمها يركز على الأغاني الجديدة ، وبعضها يعطي مساحة للأغاني الكلاسيكية ، والاغاني القديمة . 

أما أهم ملاحظاتي على الأغاني العربية المصورة فتتمثل في التالي:
1.    من الناحية التاريخية ، 
حافظت الأغنية العربية على أصالتها وخصوصيتها سواء من ناحية الكلمات أو اللحن أو الآداء طوال تاريخها الفني الحديث ، وبلغت أوج مجدها على يد عمالقة القرن العشرين كأم كلثوم وفيروز واسمهان ومحمد عبدالوهاب وطلال مداح وغيرهم . وكانت الأغنية المصرية الكلاسيكية هي الأغنية المثالية التي تُحتذى في الغناء الطربي في غالبية أجزاء الوطن العربي . واستمر الحال هكذا الى نهاية السبعينيات من القرن الماضي ، ثم حدث الانقلاب الكبير في الأغنية العربية مع الانفتاح الاعلامي على الغناء الغربي ، فاقتبست الاغنية العربية الغناء الغربي قلباً وقالباً في بداية التسعينيات من القرن الماضي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والكتلة الشيوعية . وأصبح هناك نمطين متحاذيين من الغناء : الأول حافظ على هويته وشكله ومحتواه العربي الخالص وأغلبه في دول الخليج واليمن والسعودية وبعض دول المغرب العربي ، والآخر استنسخ الغناء الغربي كاملاً مع ابدال الكلمات فقط بكلمات عربية باللهجة المحلية لكل بلد . وانتشر هذا الأخير في الأغنية اللبنانية خصوصاً وفي مصر وفي أغاني الراي في المغرب العربي والتي تزاوج بين اللغة الفرنسية وبعض اللجهات المحلية ، وتعتبر هذه بداية التحول الى الأغنية المصورة في الفيديو لتكون نسخة طبق الأصل من نظيرتها الغربية . واستمر الحال كذلك الى ما بعد الحرب على العراق عام 2003 وما تلاها من انفجار في الاستقبال الاعلامي التلفزيوني والتبادل المعلوماتي سواء عن طريق الانترنت أو عن طريق الاستقبال الفضائي عن طريق الأطباق الفضائية اللاقطة .

2.    ترتب على خروج أفواج من العراقيين من بلدهم بعد الحرب ، بالتزامن مع الانتشار الهائل في الاستقبال التلفزيوني الفضائي عبر الأطباق الفضائية اللاقطة إنتشار كبير وواسع لعدد من القنوات العراقية  التي تعددت أغراضها ومذاهبها السياسية والدينية وأهدافها الثقافية . وكان من ضمن أهم ما قدمته الفضائيات العراقية هو تقديم الفن الغنائي العراقي المصور والذي تميز بعدد من المميزات جعلته جاذباً ومقبولاً من عامة الناس كما أزاحت عن الفن الغنائي المصور تلك المسحة الأجنبية المقلدة التي وجدت في الانتاج الغنائي للبلدان العربية الأخرى وخاصة لبنان. 
أهم هذه الميزات إعادة تقديم التراث العراقي في شكل جديد ، أو تقديم الفن العراقي المحلي بكل ما فيه من مباشرة وبساطة وعمق وثراء وملامسة لهموم الانسان العراقي في جميع طبقاته وشرائحه ومكوناته يترافق هذا التقديم مع الايقاع المميز للأغنية العراقية ، ويحافظ على الكلمات واللحن التراثيين ، كما ويجتذب المشاهد عن طريق تقديم الأغاني مصحوبة بفرق من الراقصات اللواتي وجدت فيهن المخيلة العربية سمات الجمال الانثوي[10] مع الاعتماد على السرعة والابهار والحركة والتمثيل أحياناً . دخول الأغنية العراقية الى المجال الفني العربي لم يعمل على تقديم الفن العراقي الذي ظل معزولاً عن الناس طيلة عقود فقط وإنما عمل بقوة على إعادة الثقة بالأغنية العربية التراثية ، وإعادة التأكيد على قدرتها على التجديد والمساهمة في إرضاء أذواق الأجيال الشابة ( وخاصة من الطبقتين الوسطى والدنيا واللتان تمثلان الغالبية من سكان العالم العربي) والتي كانت تتعطش بشكل كبير الى وجود فن يسد فراغ الأغنية المصرية التي بدأت تنسحب من الساحة على استحياء.

3.    نجاح الأغنية العراقية في تقديم الأغنية الدارجة البسيطة الأركان بشكل جاذب ، وكذلك نجاح الأغنية العراقية في استلهام التراث وإعادة تقديمه بشكل جديد وجاذب ، ووجود عدد من الشباب العراقيين من ذوي التخصص الموسيقي الرفيع قد أثر كثيراً على الأغنية المصورة لباقي البلدان العربية . فالأغنية اللبنانية والسورية على الخصوص بدأت رحلتها أيضاً في العودة من ساحة الأغنية الأجنبية التي كان نجاحها محدوداً ومؤقتاً لتعود الى استلهام تراثها الخاص بمنطقة الشام ، ولتعيد تقديم هذا التراث ، وتقديم الطقطوقات التراثية من جديد ، والى اعتماد إدخال الدبكات[11]  وأغاني الميجانا والرقصات التقليدية والتراثية مدموجة مع المؤثرات الأخرى التي تزخر بها الأغنية المصورة اليوم .

4.    يوجد على الساحة الغنائية اليوم ثلاث تيارات متوزاية :
 أ ). الأغنية العربية "الحديثة" والتي تعتبر تقليداً مباشراً للأغاني الغربية ، وهي ذات الحان غربية ، وذات موضوعات مصورة تحاكي تماماً الأغنية الغربية غير أنها تحتفظ جزئياً أو كلياً بالكلمات العربية العامية . الغالبية العظمى لألحان هذه الأغاني متشابهة ، وتستخدم نفس المقامات الموسيقية ، وشخصياً لا استطيع التمييز بين أغنية وأخرى الا بصعوبة . هذه الأغاني مفلسه وليست قادرة على تقديم الجديد لأنها مقطوعة الجذور من تربتها الأصلية من جانب ، ولأن الغالبية في العالم العربي ما زالوا يتذوقون الأغنية العربية الكلاسيكية أو التراثية او العربية المبسطة . 

ب). الأغنية العربية الطربية الكلاسيكية ، وهذه لها امتدادات قليلة تخلو من التجديد وتقوم على التقليد أو استنساخ الأغاني القديمة كأغاني أم كلثوم وفيروز أو عبدالحليم أو نجاة الصغيرة أو غيرها. يستثنى من ذلك بعض أغاني جورج وسوف إذ أنها أغان جديدة تحتفظ بالروح الكلاسيكية للأغنية العربية[12] .
 
 ج). الأغنية التراثية المقدمة بقالب جديد ، وهذه الأغاني لها حضور كبير ويتم توظيفها بنجاح منقطع النظير في أغاني الفيديو الحالية أو في أغاني الجلسات .  والأغنية التراثية هنا لا تقتصر على الأغنية العراقية ، وانما قدم التراث الفني العربي إسهامات رائعة وأهمها التراث الغنائي اليماني[13] والحضرمي[14] ، والتراث المغربي والتونسي ، والتراث الغنائي لبلاد الشام عموماً ، والتراث الغنائي لدول الخليج ممثلة في الكويت والامارات وقطر وعمان ، أما التراث السعودي فقد كان ومازال حاضرٌ دائماً عبر اسهامات أبرز فنانيه ( على سبيل المثال لا الحصر) كمحمد عبده وعبدالمجيد عبدالله وخالد عبدالرحمن وعبادي الجوهر، وراشد الماجد، ورابح صقر وغيرهم .

5.     يعتمد نجاح الأغنية العربية ( إذا قيس بعدد المشاهدين او ارتفاع شعبية الأغنية) على عدد كبير ومتشابك من العوامل ، أهمها في نظري طبيعة المرحلة التاريخية التي تطرح إبانها الأغنية وما يكتنفها من مشاعر وأفكار وطموحات وآلام وآمال تتقاطع مع الحالة النفسية الجماعية للناس ومشاعرهم في تلك المرحلة ، كما أن طريقة تقديم الأغنية والآلات الموسيقية المستخدمة ، وما بذل فيها من مجهود ، وما يضيف عليها الفنان المغنى من ابداعات أحياناً تلعب دوراً كبيراً في نجاح الأغنية . فمثلاً أغنية ( طني ورور)[15] أغنية عراقية تراثية تم تقديمها من عدد من المغنين في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ، ولكنها لم تنجح ولم تنل ربع الشعبية التي تحظى بها هذه الأغنية ذاتها الآن بعد تقديمها في أحد جلسات قناة وناسة .
6.    تميل الأغاني العربية الى التقارب الكبير في الوقت الحالي ، وخصوصاً أغاني منطقة المشرق العربي ( بلاد الشام والعراق والخليج والجزيرة العربية بما فيها اليمن وحضرموت ) كما أن هذه الكتلة تتقارب مع الفن المغربي والتونسي على وجه الخصوص . بينما تظل الأغاني المصرية والسودانية محتفظة باختلافها عن بقية الأنماط السائدة للأغنية العربية . 

7.    هناك ملاحظة ملفته وهي كثرة عدد الفنانات العربيات والمغنيات من جميع الأوطان العربية ( عدا السعودية ) ويكاد يتساوى أو يزيد عدد الفنانات العربيات على عدد زملائهن الفنانين من الرجال ، حيث أنه من الناحية البيولوجية يزيد عدد الرجال عن عدد النساء ب 2% ، ويطرح هذا مسألة التناقض في واقع العالم العربي من حيث النظر الى أن المجتمع العربي مجتمع محافظ ، كما أن النظرة الثقافية للفن والغناء ما زالت محافظة جداً ، وينعكس هذا في أن نسبة مشاركة المرأة العربية مقارنة بالرجل في جميع الأنشطة الاقتصادية والترفيهية والمهنية خارج المنزل هي أقل نسبة في العالم أجمع نظراً لطبيعة الثقافة العربية المحافظة والمتمسكة بالأوضاع التقليدية للمرأة ووجود الميراث الفكري العربي المتحفظ حتى الآن على خروج المرأة الى العمل . وعلى هذا تصبح المشاركة النسسائية أو تمثيل النساء ( نسبة الى الرجال) في مجال الغناء بهذه النسبة الكبيرة يطرح سؤالا جدياً حول الأسباب. 

8.     تعتمد الأغاني المصورة العربية على كثير من الابهار والمظهر المزيف عن طريق استخدام التقنية التكنولوجية العالية والبعد او الشطوح عن الواقع بشكل يزيد عن المطلوب ، كما يتميز بالاستعراض النرجسي للمغني أو المغنية والمبالغة في عرض الذات سواء من ناحية الملابس ( ملابس سهرة مبهرجة ، يتم تبديلها مراراً في نفس الأغنية وعارية في بعض المناطق) أو الماكياج المبالغ فيه أو الشعر الموصول أو المستعار أو الرموش الصناعية أو العدسات الملونة أو عمليات التجميل التي أصبحت سوقاً رائجة ، وظاهرة المظهر المزيف ليست وقفاً على النساء ، فالرجال يضعون مساحيق التجميل وأنواع الكحل ويخضعون لعمليات التجميل أيضاً . ومن هنا فإن تسليع الأغنية لا يتوقف على عوامل نجاحها الفنية فقط وإنما يمتد الى العنصر الانساني الذي أصبح هو الآخر مادة للعرض والجذب الجماهيري[16]  ومورداً مباشراً لربحية الاغنية ورواجها. 

9.    من ناحية الموضوع الذي تدور حوله كلمات الأغنية المصورة فلا يوجد جديد ، فنفس المواضيع القديمة يتم إعادتها من  جديد . وتدور الغالبية العظمى من كلمات الأغاني حول الموضوعات الوجدانية التي تتعلق بالافتتان[17] ودواعيه من الهجر والضياع واللوعة بالفراق أو الاشواق أو غيرها . وفي المقابل ، تقل كثيراً الى حد الشح الموضوعات الأخرى التي يمكن أن تكون موضوعاً لأغنية كما هو الحال في الأغنية الأمريكية مثلاً والتي تمثل مواضيع الحب حوالي نصف الموضوعات أو أقل من النصف ، فالحياة المعاصرة زاخرة بالموضوعات المتنوعة ذات التأثير النفسي والوجداني الكبير على حياة الناس ، ورغم ذلك يوجد نوع من المسافة وعدم القدرة على ملامسة الهموم اليومية في موضوعات الأغاني العربية الحالية نظراً لشح الابداع والابتكار وصعوبة الخروج عن المألوف . فاستنساخ نفس المعاني القديمة والسير على منهجها أسهل من ابتكار الاشياء او الموضوعات الجديدة. 

10.                       من ناحية مضمون الصور المصاحبة للأغنية فهناك بيئتان اثنتان تتموضع فيهما الأغنية العربية ، فإما أن تكون البيئة المصورة عربية مستمدة من الماضي  البعيد كتراث العصر الأموي او العباسي أو أجواء الف ليلة وليلة أو من التراث القريب – قبل مائة عام مثلاً -، كأن تعرض الأغنية جوانباً من السوق أو الأزقة أو المنازل القديمة أو مضارب البدو وخيامهم ، أو بعض عناصر من ثقافة الغوص وصيد السمك بالشباك ، مع العلم أن جميع هذه المظاهر قد اختفت كلياً من مشهد الحياة في الوقت الحاضر. أما البيئة الثانية فهي البيئة الغربية الأوربية كأن يتم تصوير الأغنية كلياً في ايطاليا أو بريطانيا أو في أمريكا أو كندا[18] أو في القطب أحياناً وترى الناس المحيطين بالفنان من ذوي البشرة البيضاء دائماً. ومن هنا تعاني الأغنية العربية من مأزق الانفصام عن الواقع العربي في الوقت الحاضر . فقليل جداً من الأغاني تكون البيئة المحيطة بالفنان هي بيئة واقعية مأخوذة من الواقع المعاصر مثلاً من أحد الأسواق أو الشوارع أو الأماكن الفعلية في أحد العواصم أو المدن أو الحواضر العربية ، أو وسط الناس كما يبدون في حياتهم الواقعية اليومية في معظم الدول العربية . فالبيئة إذن إمّا مأخوذة من الماضي أو مأخوذة من المستقبل كما يتصوره مخرج الأغنية بدون مرور على الحاضر الذي يبدو مهملا ومسقطاً من الحسبان

    أعتقد أن السبب في هذه الثنائية تعود الى ارتباط الأغنية التراثية أو الأغنية الدارجه في بعض وجوهها بأنماط الحياة القديمة ، فيتم موضعتها في تلك البيئة التي يعتقد المخرج بأنها توصل رسالة الأغنية بشكل أفضل . أما البيئة الغربية فتبدو في استخدام أماكن موجودة في اوربا وأمريكا كمسرح للأغنية المصورة ، فترى الأكواخ الخشبية ، والثلوج البيضاء ذات الطبقات الكثيفة ، والشوارع بين ناطحات السحاب ، واستخدام الكلاب الأليفة في بعض المشاهد ، أو في المزارع والخيول والعربات كما في الغرب الأمريكي ، أو التصوير الداخلي للبيوت ذات الطابع والاثاث الاوروبي الخالص.  الشخوص المساندة للأغنية ( كالموديلات أو الممثلات أو الراقصات ) جميعهم أيضاً مجلوبون من نفس البلد الأوربي . ولعل الرسالة التي تبعثها الأغنية ذات البيئة الغربية هو أنها تربط بشكل جازم بين الحداثة والمعاصرة في مظاهرها المادية وبين اتخاذ الطابغ الغربي كاملاً دون مسائلة أو تمحيص ،  ففي ذهن غالبية العرب فإنه لكي تكون إنساناً معاصراً ومتمدناً فإنه يجب أن تتخلص كلياً من كل ما يربطك ببيئتك الأصلية وبكل ما ينبىء عن ارتباطك بثقافتك الأصلية سواء من الناحية المظهرية أو من الناحية السلوكية أو اللغوية . 

من جانب آخر ربما أن البيئة الغربية قد ترتبط في الذهن العربي بالحرية والديموقراطية والانطلاق ، وهي معاني تترابط لا شعورياً في ذهن مخرج الأغنية مع علاقات الحب والتعبير الحر عن المشاعر الوجدانية . كما أن مخرج الأغنية ربما يسهل عليه التعامل مع الموديلات والممثلين في البيئة الغربية المفتوحة أكثر من التعامل معهم في البيئة العربية الواقعية . ومما يرجح هذا الاحتمال الأخير أن كثير من الأغاني التي تظهر البيئة العربية التراثية او الواقعية الحالية تخلو من وجود النساء ، وإن وجدن فالنساء لا يوجدن جنباً الى جنب مع الرجال في أوضاع جسدية قريبة أو تفاعلية أثناء الأغنية  [19] .

11.                       مجموعة الأغاني التي تظهر في بيئة عربية معاصرة ( ليست تراثية ولا غربية) أغلبها يغلب عليه طابع الهزل والبعد عن الجدية . كما أن كلماتها بسيطة وسطحية جداً . أنظر على سبيل المثال أغاني عبدالله الرويشد ( لي مر الحلو أو الكبر لله ) أو أغنية فايز السعيد ( العمارة) وغيرها.

12.                       إن موضعة الأغنية المصورة في بلدان أوربية من أجل توفر نوع من المرونة والحرية في تصوير العلاقات بين الرجل والمرأة يطرح جانباً آخر على قدر كبير من الأهمية وهو أن أنماط العلاقات التي تظهر في الأغنية المصورة غير واقعية ، ويوجد نوع من الفصام بينها وبين الواقع العربي . ويوجد في بعض الأغاني العربية نوع من التقارب الجسدي بين المغني والممثلة يتضمن اللمس أو الضم في الأماكن العامة أو حتى بعض مشاهد غرفة النوم وإن كانت قليلة . هذا التصوير يعاكس ما هو موجود واقعياً في المجتمع العربي ، فالمجتمعات العربية في غالبيتها مجتمعات محافظة ، ولا تظهر الفتيات في الشوارع والأماكن العامة بملابس قصيرة أو عارية أو ضيقة جداً ( مع وجود استثناءات قليلة جداً خارجه عن القاعده)، كما أن التفاعل الموجود بين الشباب والفتيات العرب في الأماكن العامة ما زال يحترم المسافة بينهما بعكس ما تطرحه الأغنية المصورة . 
ومن هنا فالأغنية المصورة تحاكي واقعاً غير واقع ولا هو قريب من الواقع العربي وإنما تستنسخ الأغنية المصورة واقع العلاقات في المجتمعات الأوربية وهو استنساخ يلغي كل الفروقات الجذرية والعميقة جداً بين المجتمعات العربية والمجتمع الأمريكي أو الأوربي في منظومة القيم والمفاهيم الأخلاقية وفي نظرته للعلاقات بين الجنسين أو في مفهوم الحب في منظور كل نمط من هذه المجتمعات للدلالات التي تشير إليها تلك العلاقات. فاقتراب الصورة في جانبها المظهري ليس إلا "رأس جبل الجليد" الذي يخفي مسافات حضارية وفكرية شديدة العمق بين هذه المجتمعات والمجتمع العربي خصوصاً حينما يخص الأمر العلاقات العاطفية بين الرجل والمرأة أو النظرة الى الجنس في كل مجتمع .

13.                       حينما لا تستنسخ الأغنية العربية النموذج الغربي في تصوير شكل العلاقات والصور الخارجية والبيئة والمفاهيم والأحداث فإنها تعود إلى التراث العربي لأستلهام الصور منه ، ولكنها في بعض الأغاني تكون عودة مأساوية هذه المرة . فنماذج الاستلهام من التراث العربي تنتقي منه أسوأ ما فيه : تراث الجواري والقيان إبان سيادة نظام العبودية في المجتمع العربي القديم ، أو تراث جرائم الشرف كما هي سائدة في بعض مناطق العالم العربي الى اليوم. خذ مثلاً أغنية نجوى كرم ( أنا عم بمزح معك) ، وهي تصور أميراً جالساً على سرير تحيط به الوسائد الحريرية وتهش عليه الجواري بريش النعام وترقص أمامه فرقة من الجواري عاريات البطون بملابس عربية قديمة . هذه الصورة التي قدمها المخرج فادي حداد  صورة مستنسخة من التراث السينمائي الغربي والتي تصور الرجل العربي كرجل مأفون بالجنس ، متعطش الى الدم[20] . هذه الصورة في هذه الأغنية تعيد إلى الذاكرة عصر نظام العبودية الجنسية وهي أحلك العصور التي مرت بها الكرامة الانسانية ونقطة عار في تاريخ المجتمعات الانسانية تشير الى الانحطاط الذي بلغته بعض المجتمعات في زمن ماقبل الحداثة ، وقد ظل هذا النظام حياً الى حين إعلان الأمم المتحدة إعلان تحريم استعباد الانسان للانسان وتحرير جميع العبيد في عام 1945م . 

      أما جريمة الشرف وغسل العار ، فهي مسطرة في أغنية ملحم زين ( غيبي يا شمس غيبي) ، والأغنية كلها عبارة عن فيلم يبدأ بصورة شيخ قبيلة عربي يحتسي الخمر مع رفاقة بينما ابنته في ركنٍ ٌقصي من البيت . تعشق الفتاة قائد جيش أجنبي ( يرتدي ملابس عسكريه تشبه تلك التي يلبسها الرومان قديماَ وحاسر الرأس) ، وحين يعلم والدها بذلك بوشاية من رجل ملثم يقرر تزويجها من رجل آخر ثم تهرب الفتاة بثوب العرس ويستشيط والدها غضباً ويأمر بقتلها بسهم يخترق ظهرها فتقع صريعة . القائد ( الأجنبي غير العربي) تأخذه النخوة للفتاة الضعيفة فيغير على قبيلة الشيخ العربي ويتقابل الجيشان وتنتهي المعركة بقتل الشيخ بحربة تخترق جسده ، ويكمل القائد الأجنبي ( ملحم زين) بكاءه على قبر الفتاة .
هذا الفيديو الذي أخرجه أيضاً فادي حداد يرسم صورة مخزية للرجل العربي الذي يتجاوز كل مقاييس الأبوة الحانية ويقبل على قتل ابنته بدم بارد بسبب "وشاية" . ثم أن جريمة غسل الشرف التي تعني انحرافاً خطيراً عن كل القيم والمعايير الاسلامية[21] والعربية والانسانية لهي ذاتها عار على جبين الأمة العربية وجميع الأمم التي تمارسها ، ولا يليق بأي مقام أن يتم تصوير الرجل العربي بمثل هذه الصورة القبيحة المزرية وأن يكون الأجنبي هو الرجل المنقذ الذي يسن ناموس العدالة ويخلص العالم من الشر.
مشهد المعركة وتقابل الجيشان وطيران مجموعات كبيرة جداً من السهام في الهواء مأخوذه مباشرة من الفيلم الياباني (ران) للمخرج العالمي أكيرا كيراساوا.

14.                       إن مقارنة بسيطة بين الأغنية المصورة العربية والأغنية الغربية تقودك بسرعة إلى ملاحظة ثقل التوظيف الذي تعطية الأغنية العربية المصورة للمظهر الخارجي للمرأة ( الموديل أو الممثلة أو المغنية) عنها في الأغاني الأمريكية أو الاوربية . فالأغنية الأمريكية مثلاً لا يكون هناك متابعة دقيقة وتركيز للكاميرا لوقت طويل على جسد المرأة من حيث التفاصيل ، أما في الأغاني العربية فالملابس غالية الثمن ، يتم تبديلها عدد من المرات ، لماعة ، ضيقة ، تعري مفاتن المرأة وخاصة الصدر والساقين سواء كانت هذه الملابس ملابس حفلات أو ملابس نهار أو ملابس نوم . كما أن هناك تركيز مبالغ فيه على أقدام النساء ، ولا يكاد يكون هناك أغنية عربية واحدة تخلو من مشهد قدم المرأة وهي ترتدي حذءاً عالياً وتنزل الى الشارع من باب سيارة فارهه أو تسير على رصيف . مشهد القدم هذا لا تراه أبداً في أي أغنية أمريكية . وربما يعتبره المخرجون العرب أحد عوامل الجاذبية الخاصة بالمرأة (؟) . 

       المغنية العربية الآن أصبحت تعرض نفسها جسدياً على الشاشة ، وتعرض ما لديها من إمكانيات " بارزه" كما يقول غوار الطوشي . هذا الحال يعكس إتجاه الثقافة العربية المعاصرة الى مزيد من "تشييىء" المرأة The objectification of woman ، فمهاراتها في الغناء والآداء ليست كافية وإنما يجب أن تعرض نفسها أيضاً لمزيد من دعم القيمة التي تحظى بها الأغنية . هذا التشيؤ والتسليع لجسد المرأة موجود بشكل أصيل وحاضر بكل قوة في الثقافة الغربية الرأسمالية ، ومنها إلى بعض تفاصيل الأغنية الغربية التي يتم تقليدها ومحاكاتها دونما وعي لما يقبع خلفها من قيم ومنظورات . هذا التشيؤ المخزي لجسد المرأة ( او الرجل في الثقافة الغربية ) تدعمه ثقافة رأسمالية تقوم على عبادة الجسد باعتبار الجسد وسيلة للانتاج بالمحل الأول والجسد أيضاً موضوع جنسيSex object  مهيؤ كل التيهؤ للاستهلاك الربحي وللمتعه المرتبطة بالاستهلاك سواء عن طريق استهلاك الطاقة الجنسية أو الاستهلاك المادي المرتبط بها. جسد المرأة أيضاً قد تشيأ غاية التشيىؤ في الثقافة العربية على مر العصور . فالمرأة لا قيمة لإنسانيتها ولا لعقلها أومشاعرها أو مواهبها أو قدراتها إذا لم تكن مرغوبة جنسياً ، فتقييم الكفاءة الجنسية يطغى على أي معيار آخر تقاس به كفاءة المرأة . ولعل الأغنية العربية قد تلاقت ووجدت ضالتها في الثقافة الغربية الرأسمالية حول هذه النقطة ، فكان يسيراً أن تتحول غالبية إن لم يكن كل الفنانات العربيات إلى العرض الجسدي مقدماً على القدرة والكفاءة . هذا انحدار مؤسف في اتجاه الثقافة العربية المعاصرة ، يحيد عن الخط الذي تبعته الفنانات العربيات من جيل العمالقة كأم كلثوم وفيروز وأسمهان واللواتي التزمن الحشمة واحترام الذات ، وتفوقت مواهبهن وقدراتهن على كل المعايير التي يمكن أن توضع في الحسبان . 

15.                       يصل الاغتراب الثقافي في الأغنية المصوره مداه حينما يتم تصوير الجمال على أنه غربي الطابع ، فيظهر الموديل أو الممثل بالنسبة للمغنية والذي يقوم بدور الحبيب ، أو الممثلة التي تقوم بدور الحبيبة دائما ببشرة بيضاء وعينان زرقاوان وشعر أشقر ( سواء كانت هذه الصفات طبيعية أو صناعية مستعارة مقلدة في أغلب الأحيان) . وهنا تأتي ثنائية الغالب والمغلوب ، فالنموذج الأبيض والأشقر الاوربي الغالب والمتفوق حضارياً وعسكرياً واقتصادياً يتفوق على النموذج القمحي العربي في تشكيل الذوق الجمالي أيضاً . فالجمال العربي بالبشرة القمحية والشعر الأسود المموج غالباً لا يكون معروضاً في الممثلين والممثلات ، وانما يتم عرض الكمال الجمالي كما في اللون الاوربي والغربي دائماً . والغريب أحياناً أنك تجد أغنية تتغنى كلماتها بالعيون السود بينما الموديل ذات عينان زرقاوان!

16.                       تفتقد الأغنية العربية المصورة إلى الأصالة والابداع والابتكار ، فغالبية اللقطات والصور التي نشاهدها في الأغنية العربية المصورة مأخوذة ومستنسخة حرفياً أحياناً من أفلام مشهورة أو مقاطع فيديو لفنانين ومخرجين أوربيين أو أمريكان. ( أنظر على سبيل المثال لقطة المرأة المغطاة بالورود والزهور في أغنية نجوى كرم : يخليلي قلبك شو مهضوم[22]) وهي لقطة شهيرة في فيلم American Beauty     ، أنظر أيضاً الى الاستنساخ الكامل لأفلام الغرب الأمريكي  The   Black Stallion  في أغنية ماجد المهنديس:( ليت لي ) وكذلك أغنية نجوى كرم ( تعا خبيك ) حيث تتحول المغنية الى ممثلة وترى مشاهد المطاردات بالطائرة والسيارة والحصان واستخدام المسدسات والرشاشات على طريقة الأفلام الغربية . 

17.                       تحفل بعض الأغاني العربية بصور مباشرة للعنف ، ولا توجد رقابة ذاتية أو رسميه على مشاهد العنف التي تتخلل بعض الأغاني . العنف ضد المرأة موجود بكثرة وخاصة الضرب المباشر ( انظر على سبيل المثال : أغنية هدى سعد " ما تفكرنيش" وفيها مشهد الزوج او الحبيب يخرج حزام بنطالة ويحضره لضربها  ، وكذلك أغنية أمل حجازي : "ويلك من الله " وفيه مشهد ضرب مبرح ومباشر) . العنف ضد الرجل موجود أيضاً ، فهذا ملحم زين في أغنية " ما عاد بدي اياك" تخرج الزوجة السكين من المطبخ ملوحة بها على كلمات الأغنية التي تقول " مثّل عليّ الدور والزينة ** وانت مخبي ورى ظهرك سكينه" . هناك أيضاً كلمات الأغاني التي تحمل معاني مباشرة عنيفة كالقتل والتدمير والذبح . فهذه أغنية ماجد المهندس " أنا احبك وانا اريدك " يقول الموال في بداية الأغنية :
أنا أحبــــــــــــــــــــــك وأنا اريدك               واشتهي مرات لو تذبحني بيدك
تدري والله وانــــــــــــــــا ودي                أني أحسّــــك مرة ضـــــــــــــــــــــــــــــــــــدي
حتى ما يقتلني حبــــــــي                 وأن قتلني أنا شـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهيدك
تعودت حبـــــــــك وظلمك                 خلني اقول الحــــــــــــــــــــــــــــب اعمى
أحلى حب اللي أعرفه                 واللي يخلي القيــــــــــــــــــــــــــــــد بايدك

أغنية نجوى كرم : بالروح بالدم :
بالروح بالدم رح تبقى ياغالي ،، بالروح بالدم شو ما صار بحالي ، لو يخلى العالم من رجاله ،، وحدك رح تبقى رجالي .
اغنية ماجد المهندس : مو على كيفك
       مو على كيفك حبيبي                تبتعد وتخون وعدك
       والله لو حبيت غيــــري                 لاقتلك واموت بعدك
       كل من ياخذك منــــــي                  او يداوي بك جروحه
       اللي ياخذ روحي مني                والله لاخذ منه روحه  
             
وفي أغنية الكوكب لجواد العلي :
       إذا طعنتوه                            خلوه شبر في صدره
       لا تذبحونه                            وان طال به عمـــــــره
وفي أغنية عبدالمجيد عبدالله :
تحياتـــــــــــــــــــــــــــــــــــي          لمن دمّر حياتي
وأنا فيني نبض          أعلـــــــــــــــــــن وفاتي

هناك أيضاً صور الانتحار كنهاية يضعها المخرج للحب الفاشل ، او للعلاقة المرتبكة . انظر أغنية أليسا : " تعبت منك"  تنتهي بانتحار المغنية في حوض الحمام ، وكذلك أغنية شذى حسون : "علاء الدين"  حيث ترمي نفسها من على شرفة عمارة شاهقة في نهاية الأغنية ، وكذلك أغنية نيللي مقدسي : " محتاجه ليك " الاغنية تصور حبيبها في الحمام ماسكا شفرة الحلاقة ويفكر بالانتحار ويقطر صبغ الاظافر على يدها مذكرا اياها بمحاولته قطع رسغه فتركض اليه لتنقذه .

مشاهد الاغتصاب او محاولات الاغتصاب موجودة أيضاً : فهذه أغنية ناتاشا : "بعد بكير"  فيها مشهد اغتصاب ليلي من رجل ملثم يحاول اغتصابها . واخيرا يظهر ان الحبيب هو الذي كان ملثماً وحاول اغتصابها (؟).
من الصور غير المرغوبة أيضاً صور الاولاد الصغار يحملون الرشاشات ، أو صور البنات الصغيرات يرقصن مع راقصات كبيرات ويقمن بهز اجسادهن الصغيره بطريقة غير مقبولة. 

18.                       ما دمنا في صدد الحديث عن كلمات الأغاني فمن الملاحظ انتشار الكلمات النابية ، والتعابير السوقية ، والاسفاف في بعض كلمات الأغاني الذي يصل الى السباب أحياناً . فهذا سعد الصغير يغني " بحبك ياحمار ، ولعلمك ياحمار أنا بزعل أقوي لما حد بيقولك ياحمار" !
أغنية كاظم الساهر: " هدد ، كسر ، حطم دمر، العب على اعصابي ** قول وحول بيتي جهنم وسمّع كل اصحابي . واللعن المباشر الذي لم يكن موجوداً في أي أغنية عربية قديماً أصبح متداولاً ، فهذا أحمد الهرمي يغني ويردد " يلعن ابو الغربة" في أغنيته "صعبة" ، وهذا عبدالله الرويشد يغني " لعن ابو دارك من وين طالع في اغنيته "لى مر الحلو يولع الشارع"

19.                       وكما أن هناك جوانب سلبية في الأغنية المصورة هناك جوانب إيجابية أيضاً ، فالأغنية المصورة العربية تكاد تخلو تماماً من مشاهد التدخين ، ومشاهد شرب الخمور ، كما تخلو تماماً من مشاهد القبل أو الاقتراب من المشاهد الجنسية المثيرة رغم أن الأغنية العربية تتسامح مع الضم . والضم في الأغنية العربية غالباً ما يكون من الخلف ، وربما يعود هذا التسامح من خلال التأكيد على أن الضم يعني الحنان والدعم المعنوي أكثر مما يشير الى معاني أخرى . 

20.                       جميع الأغاني العربية تقريباً كلماتها عامية محلية ، ويندر جداً أن تكون الأغنية باللغة العربية الفصحى . هناك إصرار متعمد على عامية الكلمات المغناة والسبب يعود الى اعتقاد سائد بأن اللغة الفصحى صعبة الفهم والتطويع وبأنها لغة " غريبة" عن الواقع اليومي للناس ، أو أنها لغة متكلفة ، ومن أجل البساطة والقرب من الناس يجب – في مفهومهم- أن تكون الكلمات عامية . يستثنى من هذه القاعدة أغاني كاظم الساهر ، فهو مغن مجتهد ولديه تقدير خاص للأغنية باللغة العربية الفصحى ويغني من شعر نزار قباني أو كريم العراقي أو غيرهم ، وتعطي الكلمات باللغة الفصحى كثير من الجزالة والقوة كما أن الخيال الذي يصاحبها يعود بك الى أصالة اللغة العربية والى تلك المعاني الراقية التي تخلقها الفصحى في المخيلة .  

21.                       هناك بعض الأغاني تحمل مشاعر الحنين الى الماضي وهذا الحنين ليس مطروحاً للمشاهد في الصور التراثية وأساليب الحياة القديمة فقط ، ولكن كلمات الأغنية نفسها تمجد الحياة في الماضي وخاصة في مرحلة ما قبل الحداثة . فالرجوع الى العيش في الخيمة في الصحراء أو استخدام الجمل بدلاً من الطائرة والسيارة موجود في بعض الأغاني[23] . وهذه النزعة الرومانسية التي تصور الماضي على أنه مثالي وقادر على الاشباع موجودة في الأدب والانتاج الانساني بعامة ، ولكنها هنا تشي بنزعة نكوصية الى أمثلة الماضي والهروب من حالة الاغتراب التي ترافق العيش في المدن وأسلوب الحياة الحديثة . 

22.                       تعتمد الأغنية العربية المصورة على تمثيل الأدوار حيث يستخدم المخرج الموديلات أو ممثلات للقيام بدور الحبيبة في القصة التي تدور حولها كلمات الأغنية . والملاحظ أن الأغنية العربية تتسامح كثيراً مع فارق السن بين المغني والموديل ، فتجد المغني في الأربعين أو الخمسين ومعه فتاة في العشرين ، فالمسافة العمرية بين الأثنين تصل أحياناً الى عشرين أو ثلاثين عاماً بعكس الأغاني الأمريكية أو الاوربية التي تركز دائماً على شخصين متساويين في العمر تقريباً أو بفارق لا يزيد عن خمس سنوات فقط . فارق السن بين الرجال والنساء يطرح مفارقة المكانة الاجتماعية بين الرجل والمرأة في الثقافة العربية كما هي فعلياً في الحياة الواقعية ، كما تطرح هذه المسافة الكبيرة المسافة بين جيلين لا يمكن لهما أن يلتقيا في علاقة مثالية أو قريبة من المثالية نظراً لأنه واقعياً لا يُمكن لهذه المسافة الكبيرة أن تُرتق أو تُعَوّض بمشاعر الافتتان كما يعتقد كثير من المخرجين ، فالتركيز في الأغنية يكون دائماً على المظهر الخارجي للفتاة وليس على إقناع المشاهد بعملية التوافق المحتمل بين شخصيتين انسانيتين يلعب السن والخبرات الفردية أدواراً حاسمة فيها.  وكما تؤثر الثقافة الواقعية في تصوير الأغنية العربية للأدوار بين شخصين ، فإن الملاحظ في الأغنية العربية أن غالبية المغنين العرب يفضلون أن يلعبوا الأدوار بأنفسهم ما عدا المطربين السعوديين ، فهم ينيبون ممثلين وممثلات للقيام بالأدوار المطلوبة في الأغنية ، ولا يظهر الفنان السعودي مع ممثلة مباشرة . 

23.                       من جوانب تأثير الثقافة العربية الواقعية (القديمة) التي ما زالت تتنفس من خلال طبقات اللاوعي الجمعي العربي وتظهر على الأغنية المصورة أن الأغنية المصورة لم تتخلص بعد من صورة الرجل الذي تحيط به الجواري أو النساء الشابات من كل جانب . وهي صورة فانتازية أكثر منها واقعية ، فحتى الأغاني ذات الطابع الغربي البحت يظهر فيها المغني محاطاً بعشرات من الفتيات المراهقات أحياناً ( انظر الى أغاني عمرو دياب  وكاظم الساهر وأماني السويسي على سبيل المثال لا الحصر) . ولاشك أن هذه الصورة صورة غير حضارية ، وترسم صورة قاتمة عن المجتمع العربي ، كما تؤكد هذه على قيمة الفحولة البيولوجية[24] كمقابل مضاد لقيم الرجولة الاجتماعية ، وعلى تأكيد صورة العربي المأفون بالجنس . فمع انحطاط الحضارة الاسلامية وتفككها تحولت قيم العفاف والشرف وضبط النفس التي كان العربي القديم يمتدح بها نفسه وتعتبر قيمة حقيقية من قيم الرجولة الحقة تحولت هذه القيم الى نقيضها تماماً ، فأصبح الاعتزاز بالفحولة البيولوجية ( التي تتفوق بها ذكور الحيوانات من التيوس وغيرها على أي قدرة انسانية ) من عوامل الفخر والاعتزاز بين الأقران والرفاق في بعض الشرائح من المجتمعات العربية الحالية . قال أبو العلاء المعري في أول بيت من قصيدته المشهورة :

      ألاَ فِي سَبيلِ المَجْدِ مَا أنَا فَاعِلُ               عَفَافٌ وإقْدَامٌ وَحَزْمٌ ونَاِئلُ

فوضع الشاعر قيمة العفاف كأول قيمة لمعرفته بصعوبتها وتحديها للإرادة الحقيقية للرجل .  ولعل الاعتزاز بالفحولة كان أحد الترسبات الاجتماعية للفترات التاريخية المظلمة والتي شهدت تفكك الدولة المركزية العربية وتفشي الحروب وضياع الأمن ، فتواشجت هذه القيمة مع قيم تمجيد القوة  وتمجيد الغزو وأخذ ما في يد الآخرين بقوة السيف في المجتمع البدوي ، وصار " صيد" النساء ( سواء كان حقيقياً او متخيلاً) أحد وجوه الاعتزاز والافتخار وأحد مؤشرات القدرة على الاحتياز والامتلاك.

24.                       يتبع التحليل السابق ما يُشاهد في بعض الأغاني العربية من ملاحقات الرجال للنساء في الشوارع والأسواق والأماكن العامة  ومحطات المترو ، وتبرير ذلك بالأفتتان بالجمال غير العادي للمرأة . هذه الصورة من الملاحقات لو حدثت في مجتمعات أخرى لاعتبرت خرقاً لحرية الآخرين قد تستدعي التدخل القانوني في المجتمعات المتحضرة في أمريكا أو اوربا 
[25] .
لا توجد هذه الملاحقات الا في بعض المجتمعات العربية ، انظر على سبيل المثال أغنية عبدالله الرويشد" لي مر الحلو" :
لي مر الحلو       يولع الشـــــــــــــارع
ما يبقى بشر      وعيون ما تطالع
المشيه دلع        والنظره ولـــــــــــــــــع
احس قلبي انشلع        اوه احس قلبي انشلع      لعن ابو دارك انت منين طالع [26]
قلنا ياعسل ما ترد           شي المانع
صوتي ما وصل     والا انت مو سامع
قلنا مرحبا              شي اللي تطلبه
خلصنا يبه        هوه      خلصنا يبه             الساعه 12    بيعزّل الشارع
لي وانا الحقه        فيه تعب ضايع
تكفى يا حلو        بس التفت طالع
هَدَّى خطوته          وقالي لي متى
طلع دبلته    هوه        طلع دبلته          وخلاني ارد لأول الشارع 
فالكلمات تتطابق مع المشاهد المصورة في الأغنية . وفيه يطارد الرجل فتاة أعجب بها ، وتجده يتابعها في كل مكان تذهب إليه . هذا المظهر ليس صورة من تصرفات المراهقين ولكنه موجود بكثرة في المجتمعات العربية . والسبب في وجود المطاردات في المجتمع العربي لا يعود الى جمال خارق  في بعض النساء فهذا وهم ابتدعه الشعراء ، كما ابتدعته المخيلة العربية كنتاج للعزلة الاجتماعية الصارمة المفروضة على الجنسين ، وانما يعود السبب الى غياب التنظيم الثقافي لعلاقات الرجال والنساء في المجتمعات العربية ، فأصبح هناك تلهفاً وبحثاً غير عادي عن الأنثى ، يُفاقم هذا الوضع عدم وجود " قنوات معترف بها ومقبوله لهذه العلاقات" في المجتمعات العربية الحالية يتوائم مع واقع المعيشة في مجتمع حديث تستلزم فيه ظروف الحياة وجود تفاعل مباشر بين الجنسين وبالتالي يملي ذلك ضرورة وجود تنظيم لمثل هذا التفاعل .
 فأصبح من المقبول هناك مطاردة النساء في الأماكن العامة يخدم ذلك عدد من العوامل منها الافتخار بالفحولة الذي تكلمت عنه سابقاً ، وعدم وجود قنوات مقبولة للتفاعل الاجتماعي ، وللإيمان شبه المطلق بوجود الجمال الخارق كفكرة لم يتم مسائلتها في العقلية العربية الحالية ، ولكون المرأة العربية قد تشيأت وأصبحت تُعامل كموضوع جنسي أو كمحل للشهوة بدلاً من أن تُدرك كانسان كامل له من الكرامة ما يجب أن يحفظ ويصان  وكان هذا التشيؤ أيضاً نتاجاً للعزلة بين الجنسين بالقدر الذي لم يسمح أبداً بإدراك المرأة خارجاً عن إطار الغريزة الجنسية وبعيداً عن حدود الغرائز ، وأصبحت كثير من الفتيات العربيات يرين أنفسهن وقيمتهن من خلال كونهن مرغوبات جنسياً ، فكثير من الفتيات يعجبهن غزل الرجال بهن وامتداح جمالهن علناً في الأماكن العامة ، ولعل بعضهن يشجعن هذا الاتجاه المهين في طريقة ارتداء الملابس ، ووضع الزينة ، وتعمد الغنج والدلع في المشي والحركات ، ( انظر الى صورة صادقة منسوخة مما يحدث في الواقع في تصرفات الموديل في أغنية عبدالله الرويشد التي اشرت لها سابقاً ) . 

25.                       توظف الأغنية العربية الرقص بشكل رئيسي في الأغنية المعاصرة ، والرقص الذي يتم توظيفه يعتبر عامل جذب ونجاح للأغنية . وهناك أنواع كثيرة من الرقص يتم توظيفها بشكل مبدع وممتاز[27] ، فهناك الرقص على الطريقة الجاكسونية ( نسبة الى مايكل جاكسون) وهي منتشرة كثيراً في الأغاني العربية وخاصة في الأغاني الاستعراضية . وهناك الرقص الاستعراضي التقليدي الذي يقوم على فرق كبيرة من الراقصين والراقصات وأغلبه إن لم يكن كله أوربي الأصل والطابع ، وهناك الرقص التقليدي التراثي كما في الرقص اليمني ، والشرح الحصرمي ، ورقصات البحر وصيد السمك ، وهناك الدبكات الشامية بمختلف أشكالها ، وهناك الزوك . واستخدام الأغاني للدبكات الشامية أو الرقص الصعيدي المصري لا شك يدعم الأغنية ويعطيها نوعاً من الأصالة والقوة .
26.                       الزوك ( زاك يزوك زوكاً كما في لسان العرب ) كلمة فصيحة تستخدم في نجد للدلالة على رقص الرجال على الطريقة النسائية . وهذا النوع الجديد من الرقص يستخدم فيه اسلوب الرقص الذي يعتبر تقليدياً في نجد رقصاً للنساء وليس للرجال . ويعتمد هذا الرقص على هز الجسم والصدر والاكتاف وترقيص الاليتين ، مع المشي الذي يوحي بكثير من الغنج والدلال ، والتمايل يمنة ويسرة مع ايقاع الاغنية . ويستخدم بعض الراقصون حركات نسائية محضة ، كالالتفات بالوجه يمنةً ويسرة ، والغمز بالعين مع ابتسامة مصطنعة ، وكذلك اخفاء الوجه أو جزء منه بالحجاب ( وهو هنا الغترة أو الشماغ) ، واستخدام اليدين والذراعين في الرقص في حركات متساوقة ومتبادلة أو مع الضرب على ظاهر الفخد ، وكذلك ما يعرف بضرب " الاصبع " عند الرقص وهو اصدار اصوات فرقعة نتيجة لاحتكاك الاصبع الاوسط مع الابهام . الزوك شائع في جلسات الأغاني الخليجية التي تبث على قناة وناسة[28] وبعض القنوات الأخرى ، والغريب أن الفرقة النسائية للرقص تظل جالسة مكانها ويقوم الرجال عوضاً عنها بالزوك[29] (؟) .

27.                       نظراً لعدم وجود حقوق قانونية محفوظة للفنان العربي فإن الاعتدء على الكلاسيكيات العربية ( كأغاني أم كلثوم وفيروز وعبدالحليم واسمهان وفريد وغيرهم) بات أمراً مشاهداً يومياً . فيتم مثلاً ادماج صور لمغنين هواة عن طريق الخداع البصري واستخدام التكنولوجيا الحديثة مع عمالقة الفن مثل ام كلثوم  واسمهان وعبدالحليم ومحمد عبدالوهاب وليلى مراد حتى ليخيل للمشاهد بأن هذا الهاوي واقف يغني فعلياً مع ذلك الفنان أو الفنانة الذي ربما يظهر في صورة قديمة تعود الى أيام التصوير بالأبيض والأسود .  وهكذا تكون الرغبة في الجذب الاستهلاكي للمشاهد على حساب القيمة الفنية والراسمال الفني للوطن العربي. 

هذه مجموعة من الملاحظات الاجتماعية حول الاغنية العربية المعاصرة بمختلف اطيافها ، ولعلها تكون نواة لدراسة عميقة وأكثر تخصصاً في دراسة وجوه الثقافة العربية ومنها الجانب الاعلامي في الانتاج الفني على الخصوص. 


د. فاطمة عبدالله السليم .



الهوامش

[1]  متخصصة في دراسات التنمية والتحديث في العالم العربي ، ( اكتوبر 2013) .
[2]  اضطررت في هذا المقال الى ادراج بعض الروابط التي تنقل القارىء الى الأغنية في اليوتيوب ، ولكنني شخصياً أفضل أن يكون اطلاع القارىء المهتم بالمتابعة على شاشة التلفزيون مباشرة ، إذ أن المتابعة على شاشة تلفزيون يفضل أن تكون كبيرة الحجم ( تتعدى 70 أو 80 بوصة أو اكبر غذا امكن ) مع استخدام موزعات الصوت Home theater يكفل الاندماج في الأغنية والغوص في تفاصيلها الدقيقة وأجواءها الخاصة  ويمكّن المشاهد من إجراء الملاحظات بشكل أدق وأصدق وهذا قطعاً لا يتوفر على الشاشة الصغيرة جداً لليوتيوب ، إذ أن تكبير شاشة اليوتيوب يؤدي الى عدم وضوح التفاصيل ويمكن ملاحظة عدم وضوح الصورة فيما لو ربط اليوتيوب بشاشة التلفزيون مباشرة . ولتلافي هذه العيوب ، فالافضل الاستغناء عن اليوتيوب كلياً ، فمن استطاع الوصول الى هذه الأغاني عن طريق الاستقبال التلفزيوني المباشرفي أمريكا فهذا أفضل ،  وحيث لا يوجد لدي قنوات عربية في منزلي في امريكا فلا أعلم أي القنوات العربية يصل هنا أو لا يصل. وعموماً  يمكن الحصول على الأغاني مسجلة في DVD   إذا لم يتوفر مشاهدتها من التلفزيون مباشرة . يضاف الى ذلك أن مشاهدة التلفزيون تعتبر أحد وجوه التفاعل الاجتماعي التي يمكن مشاركة الأولاد وأفراد الأسرة فيها .  
[3]   الأغاني المطروحة في التلفزيونات العربية كثيرة جداً ومتنوعة جداً ، وكثير جداً منها لا يوجد على اليوتيوب ، ولهذا كانت الخيارات المتوفرة على اليوتيوب  قليلة ومحدودة ( من أجل الايضاح كأمثلة فقط) وهي لا تعكس العدد ولا المضمون الحقيقي للكم الهائل والثري جداً من الأغاني المصورة .
[4]  . إذا كانت الأغنية تتحدث عن أحداث معينة يشترك فيها شخصان ( المحب والمحبوب كما في أغلب الأغاني )، فإنه من المستحيل تقريباً إحضار الشخصين فعلياً في موقف الأغنية ، ويستعاض عن ذلك بأدوار تمثيلية يمكن أن تحاكي التجربة الواقعية لهذين الشخصين  كما يتصورها كاتب الكلمات ومخرج الأغنية . 
[5]  هذه الأركان الثلاثة موجودة في نظرية الفن عموماً ، وهي هنا تطبيق لهذه النظرية.
   [6]   يرتبط الفن في جميع المجتمعات الانسانية بالخلق والابداع والتجديد ، وفي المغايرة وعدم الامتثال للقوالب التقليدية من الثقافة ، ومن هنا جاءت النظرة المتشككة والمتخوفة والمهمشة للفن .
[7]  كليب هنا ليست تصغير " كلب" ، ولكنها ترجمة عربية ل Clip  ، حيث تتعمد بعض الفضاءيات العربية تجنب تعريب اسماء القنوات وتفضل نطقها وكتابتها باللغة الانجليزية حتى لو اختلط الحال كما هو هنا  ، وكان الأفضل تسميتها قناة الأغاني المصورة.
[8]   روتانا هو تعجيم لكلمة "روثانة" العربية وهو اسم نخلة في المدينة المنورة ، ومن أجل تعجيم الكلمة وجعلها مشابهه للكلمات الأجنبية تم قلب الثاء الى تاء وكذلك حذف هاء التأنيث آخر الكلمة وابدالها بألف . فسبحان الله على عصر صار فيه التعجيم مفضلاً على التعريب !
  [9]  Music Plus .
[10]   انظر على سبيل المثال أغنية " شعر " لحسن الرسام ، أو أغنية البرتقالة لعلاء سعد. حيث الراقصات يتميزن بيياض البشرة والميل الى امتلاء القوام مع ارتداء الملابس الضيقة والاعتماد على الهز والارتعاش أثناء الرقص وعلى نسف الشعر الأسود الطويل يمنة ويسره . وقد كان لمثل هذه الأغاني شعبية كبيرة طبقت الآفاق إذ وافقت هذه الأغاني على بساطتها وركاكة معانيها الكثير من الاستحسان ووافقت الذوق العام لكثير من ابناء الطبقات الوسطى والعاملة.
[11]  هذا مثال على نجاح الأغنية اللبنانية في ادخال الدبكات في الأغنية العاطفية العادية ( ملحم زين : علواه ، كذلك نجوى كرم الله يشغل له باله)
[12] جورج وسوف من اقدر واميز المغنين على الساحة العربية اليوم ليس فقط بسبب تخصصه في الاغاني الطربية ولكن للقدرات غير المحدوده لصوته وآدائه . يتميز جورج وسوف بشخصية غريبة الاطوار بعض الشيىء وبتلك القسمات البائسة والحزينة التي ترتسم على وجهه ـ يتميز جورج وسوف عن جميع المغنين العرب بالبساطه والصدق بعيد الحدود والثقة الكبيرة بالنفس ليس فقط في الغناء ولكن أيضاً في المظهر ، فهو في اغلب الاغاني المصورة يظهر ببنطلون جينز وقميص مهمل ، وبشعر لم تمسه اصباغ الشعر ووجه يخلو من أي لمسة تجميل ، وبدون بهرج ولا حيل فوتوغرافية ولا الوان ولا تلاعب اضواء ولا موديلات ولا اماكن فخمه فهو يقبل نفسه كما هي ويقدمها واثقاً بأن المتذوقين لفنه لن يهتموا لمظهره بل بالعكس سيشعرون بأنه واحد منهم . اغاني جورج سوف على سبيل المثال (ذكريات ، او بيحسدوني)  تركز على المعاني الوجودية والتفكير في الاسئلة الفلسفية حول الناس والاصدقاء والحسد والاهتمام والفراق والذكريات وطائفة كبيرة من الاسئلة الوجودية  والتي تختلف عن بقية الأغاني على الطريقة التقليدية في الغالب .
[13]  الفن اليماني من أعرق وأكثر أنواع الفنون الغنائية العربية ابداعاً وأصاله ، وهو لاشك يعتبر أحد الروافد الفنية الهامة لشبه الجزيرة العربية ، والذي أثر على الأغنية السعودية في كثير من الجوانب لا مجال لاستعراضها في هذا المجال الضيق.
[14]  الفن الحضرمي يختلف عن الفن اليماني في بعض الوجوه ، وهو الآخر قد اسهم اسهامات رائعة في رفد الأغنية في شبه الجزيرة العربية ، يمكن على سبيل المثال تتبع ماقدمه حسين ابو بكر المحضار من أغاني رائعة غناها كثير من الفنانين الكويتيين او السعوديين أو الحضارمة . 
[15]  تستحوذ أغنية ( طني ورور) ، التي قدمتها الفنانه جميلة المغربية على أكثر من 19 مليون و200 ألف مشاهد على اليوتيوب وهذا دليل على أن الأغنية المصورة تمثل ظاهرة ثقافية تستحق الدراسة والتحليل والمتابعة لمعرفة العوامل التي تجعل من أغنية تقدم للمرة الثانية ولكن في ظروف سياسية واجتماعية مختلفة تلاقي مثل هذا النجاح. طني تعني أعطني ، والورور اسم المسدس ، والأغنية تتحدث عن الفوارق الطبقية والمادية بين الناس ، فمؤلف الكلمات يريد أن يأخذ مسدساً ويطلقه على جميع مظاهر عدم العدالة الاجتماعية والاقتصادية . هذه الأغنية ملائمة تماماً لظروف الربيع العربي الحالية ولهذا تحظى بهذا النجاح.
[16]  يمكنك قراءة التعليقات التي يكتبها المشاهدون للأغاني المعروضة على اليوتيوب لتتبين كيفية تأثير المظهر الخارجي للفنان أو الفنانه على حكم الجمهور بالسلب أو الايجاب. كما أن قراءة التعليقات تعطي مادة ثرة للتعرف على الطريقة التي يفكر بها جيل الشباب العربي اليوم خاصة قي ظل توفر مقدار من الحرية مع شبه انعدام للرقابة على ما يكتب من تعليقات .
[17]  الافتتان هنا يختلف عن الحب ، فالافتتان يعني الانجذاب الذي يحدث بين شخصين متباعدين ، أما الحب فهو الذي ينتج عن  المعاشرة والمعرفة الكاملة بالطرف الآخر(عن طريق الزواج ) وهذا اختلاف كبير بين الأثنين ، فالحب شعور صادق ثابت بالتجربة اما الافتتان فهو وهم جميل يموت حالما يتحقق ، أو يتحول الى حب أو كراهية بحسب ظروف كل حالة انسانية . وهذا وجه اختلاف رئيسي بين الأغنية العربية التي تتغنى للافتتان ، والأغنية الأمريكية التي تتحدث عن علاقة تم اختبارها واقعياً. 
[18]  أنظر على سبيل المثال أغنية شيرين عبدالوهاب (  انكتب لي عمر) ، وهي أغنية غربية قلباً وقالباً وتم تصويرها في كندا في فصل الخريف .
[19]  انظر أغنية فهد الكبيسي (ما تخيلتك بدوني) وهي أغنية تم تصويرها في أماكن تعود الى ما قبل مائة سنة أو اكثر في الخليج العربي وشرق السعودية.
[20]   أنظر في هذا المجال الى رسالة الدكتوراه التي انجزها الدكتور صالح الأسود حول صورة العرب في الأفلام الأمريكية ، وكذلك كتاب جاك شاهين Reel Bad Arabs)) وفيها يثبت الصورة النمطية للرجل العربي كمتعطش الى الجنس ، ومتعطش الى الحرب والدم . هذه الصورة لم تحاكم العوامل السياسية والثقافية والتاريخية  في التاريخ العربي والتي دفعت بمثل هذا النموذج الى الأمام . فكما يذكر ميشيل فوكو في  كتابه "حفريات المعرفة"  أنه في التاريخ الروماني خاصة فإن العوامل السياسية تتغلب على العوامل البيلوجية التي تبدو ظاهرة للناس ، وإن كانت من ضمن " غير المفكر فيه " في غالب الأحيان . ويذهب فوكو أنه في عهد الامبراطورية الرومانية فإن الولاة أو القواد العسكريين المتميزين وذوي القدرات القيادية الفذة والذين يُخشى من منافستهم يتم التخلص من منافستهم المحتملة بتفريغ طاقتهم عن طريق الجنس ، فيتم اهداؤهم أعداداً كبيرة من الجواري لينشغلوا بها عن أمور السياسة وتدبير الحكم . ومن جانب آخر تشكلت صورة العربي المتعطش الى الجنس من بعض المصادر الواقعية الحقيقية في الثقافة العربية  المعاصرة  كثقافة الاعتزاز بالفحولة الجنسية  التي حلت محل قيم الرجولة التي كانت سائدة في الجاهلية أو في العصور الاسلامية الأولى.  
[21]  في حديث الرسول ( ص) أن الرجل يدخل الجنة أذا ربى وأحسن تربية فتاة أو فتاتين وأحسن اليهما . وفي التراث الاسلامي فإن عقوبة الزنا متساوية لكل من الرجل والمرأة ولا يوجد عقوبة خاصة بالمرأة وأخرى للرجل ، وإنما حث الاسلام على العفة لكليهما وعلى غض البصر وحفظ الفروج وضبط النفس وبصلاح كل من الرجل والمرأة يصلح المجتمع كله وهذه هي القيم الأصيلة التي جاء بها الاسلام . وجريمة غسل الشرف لهي انحراف أشد انحراف عن القيم والحدود الاسلامية والانسانية.
[22]  من الملاحظ أن اللهجة العربية الدارجة تقرن بين صفات الطعام المرغوب وصفات الشخص المرغوب أو المقبول جداً ، فيقال فلان حلو والحلاوة وصف للطعم وليس للإنسان ، ويقول المصريون : فلانه لذيذه دلالة على الجمال ، أما كلمة " مهضوم" فهي الأسوأ في نظري إذ أنها تستخدم المصدر الميمي الذي يشير الى المرحلة التي ينتهي بها هضم الطعام ويتحول الى (؟) ، فكيف يمكن وصف شخص جميل ومقبول جداً بأنه ( ) ؟ 
[23]  هناك أغاني نهوى وهي أغاني جميلة ومتميزة جميعها تقريباً من الفن البدوي وفيها حنين الى حياة البادية والمعيشة في الخيمة . كذلك أغنية وليد الشامي " الناقة ولا السيارة لو طوّل المسراح ** الخيمة ولا العمارة " من جلسات قناة وناسة، وهناك الأغاني البدوية التي أعاد تقديمها الفنان الأردني عمر عبداللات.
[24]  يشير مصطلح الفحولة البيولوجية في علم الاجتماع الى "القدرة الجنسية" والى الاوضاع الاجتماعية المتعلقة بهذه الغريزة . وتشير الأبحاث الاجتماعية منذ ستينيات القرن العشرين الى أن الغالبية العظمى من بني البشر يتساوون تقريباً في القدرة الجنسية ، ووجود تفارقات بين الناس لا يعود لأسباب بيولوجية وأنما لعوامل اجتماعية وثقافية ونفسية ، أما زيادة هذه القدرة عن الحدود العادية فيشير الى نوع من " الشبق" وهو جانب مرضي له أسبابه البيولوجية والاجتماعية والنفسية  التي تستدعي العلاج . 
[25]  في الثقافة الأمريكية فإن المطاردة Stalking سواء من الرجل أو المرأة يعتبر سلوكاً منحرفاً ويستدعي تدخل البوليس أحياناً . يتعارض هذا السلوك مع ما تراه الثقافة الأمريكية في أن الاعجاب أو الميل بين طرفين يستدعي تفاهم الطرفين ومشاركتهما معاً في بناء علاقة ، وليس عن طريق المطاردة وفرض شخص لوجوده ومشاعره على طرف آخر. أما الجمال فإن الثقافة الأمريكية نادراً ما تقرن بين الحب والجمال ( Beauty is in the eye of the beholder ) ، ويؤكد الأمريكيون على الجاذبية بدلاً من الجمال ، فيقال أن فلانة جذابه Attractive وليس جميلة ، فالجاذبية تجمع بين عدد من الجوانب ، منها عامل الشخصية الجيده ، والقدرة على التواصل ، والاتزان الانفعالي ، والمظهر المقبول الذي ليس بالضرورة له سمات جماليه غير عادية.
[26]  لن اتعرض هنا الى مخاطبة المؤنث بصيغة المذكر في الأغنية العربية وفي الشعر العربي عامة . هذه ملاحظة على الهامش وأترك التفكير فيها للقارىء المهتم . 
[27]  على سبيل المثال لا الحصر تم توظيف الدبكات الشامية بنجاح ممتاز في بعض الأغاني ، كأغنية نجوى كرم " يخليلي قلبك شو مهضوم" التي تحدثنا عنها سابقاً ، أو أغنية ملحم زين " علواه" ، أو أغنية عاصي الحلاني " سألوني"
[28]  تبث جلسات وناسة في الساعة التاسعة والنصف ليلة الخميس أو الحادية عشر ليلاً في ليالي الأسبوع بتوقيت السعودية. 
[29]  .. هناك الكثير مما يمكن أن يقال عن الزوك ، ولكن أكتفي بهذه العجالة في هذا المقال . يلاحظ أيضاً في مجموعة كبيرة من رقصات الزوك أن يقسم الراقصون أنفسهم الى اثنين اثنين ، فيرقص كل اثنين مع بعضهما ويقومان بالتنسيق بينهما أثناء الرقص حول تماثل الحركات كما ويوجه كل منهما انتباهه نحو الآخر أثناء الرقص انظر على سبيل المثال أغاني حاتم العراقي وابنه قصي  ، وكدلك وفهد الكبيسي ، وفيصل الراشد ، ومريام فارس ، وراشد الماجد ، وماجد المهندس ، ومشاعل ، وغيرهم كثير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق