الفينومينولوجيا وعلم اجتماع الحياة اليومية

الجمعة، 26 ديسمبر 2014



الفينومينولوجيا وعلم اجتماع الحياة اليومية
                                              د. فاطمة بنت عبدالله ابراهيم الســـليم[1]

يناقش هذا المقال علاقة الفينومينولوجيا بمنهجيات العلوم الاجتماعية، وخصوصاً تطبيقاتها الواقعية في العالم الغربي وفي العالم الثالث. وما استرعى انتباهي في كثير مما كتب حول الفينومينولوجيا هو الاعتقاد السائد بأن الفينومينولوجيا قد بدأت تماما على يد ادمون هُسرل وأكملت بماكس شيلر والفرد شوتز وغيرهما ، والحقيقة أن الفينومينولوجيا كفلسفة وقبل أن تتحول الى ميثدولوجيا على يد هسرل كانت جذورها المبكرة قد وجدت قبل هسرل بكثير، تماما في قلب الجدل الفلسفي حول "هل يوجد العالم في العقل"، أم "ان العالم له وجود مستقل خارج العقل"، هذه الفرضيات المبدئية وجدت جذورها ( كما يُعتقد) في الفلسفة اليونانية القديمة في الجدل حول ماهية العالم ومصدره ، وهي التي قادت الفلسفة الاوربية المتأخرة ( القرن 19 والعشرين)، وبناء عليها في منهجيات العلوم الاجتماعية في انتهاج الطرق المزدوجة في الاستفتاء المعرفي: بين التكميم (quantitative Methods الذي يعتمد على الطرق الأستقرائية الرياضية والاحصائية التي تماهي منهجيات العلوم الطبيعية) وبين النوعية الذاتيه (qualitative methods of research ). اذا كان العالم له حقيقة خارج العقل، فالأفضل جمع جزئياته من أجل معرفته بطريقة التكميم ( الاستقراءdeduction )، لأن للمادة في العالم الخارجي وجودا مستقلا عن الذات العارفة ، وهذا ما يسمح  بالموضوعية ، ويحقق امكانية اعادة التجربة بنفس المعطيات او المقدمات والخلوص الى نفس النتائج ، وهو ما يعرف باعادة التجريب replication ما دام الموضوع مستقل عن الذات تماماً . اما اذا كان العالم موجودٌ داخل العقل، و العقل او الوعي هو الذي يعطيه ماهيته وحدوده وتعريفه ، فليس للعالم اذن وجود مستقل عن الذات العارفة ، ومن هنا بدأ التمايز بين مسارين مختلفين في منهجيات العلوم الاجتماعية، وان كان كِلا هذين المسارين قد وجدا جنباً الى جنب في معظم اعمال السوسيولوجيين الكبار وبالأخص اميل دوركايم وماكس فيبر  وكارل ماركس. ومن الواضح أن منهجية هسرل تصر على المنحى الذي يقول بوجود العالم داخل العقل وليس خارجه. حيث يُعتقد أن فلسفة هسرل هي في الاساس فلسفة مثالية مشتقة من مثالية ايمانويل كانط في تاكيده على أن الحقيقة يمكن أن تُدرك بالوعي من خلال ادراك المعنى والوصول الى الفهم وليس بالضرورة عن طريق استخدام الحواس . وهذا المنحى قد انتج طرقا خصبة في البحوث الاجتماعية من أهمها الأثنوميثودولوجيا أو ما يعرف بسوسيولوجيا الحياة اليومية التي اقتبست كثيرا من المشارب الفلسفية للألفرد شولتز وماكس شيلر وخصوصا في اصرارهما على أهمية الخبرة الفردية كمصدر اساسي للوعي الاجتماعي وبالتالي كمصدر للمعرفة ذاتها . وقد قاد ظهور الأثنوميثودولوجيا الى إعادة الاعتبار للمناهج التي تعتمد على السرد القصصي للأحداث Narrative construction of reality . وعلى منهج تحليل اللغة اليومية للمحادثة ، والمنهج الأخير أصبح مصدرا ثريا للنظريات في حقل علم اجتماع المعرفة في فترة ما يعرف " بعلم اجتماع ما بعد الحداثة Postmodern sociology" ، وخاصة النظريات النسوية Feminist theories  في العالم الغربي، والتي تتسيد الآن بلا منازع حقل التنظير الاجتماعي بمختلف مشاربه. والحقيقة أن الفينومينولوجيا قد ارجعت الصبغة العلمية لدراسة الأدب من الناحية السوسيولوجية البحته ، من حيث تاكيدها على أهمية فهم العلاقة بين الانتاج الادبي وكيفية بناء الواقع  في وسط اجتماعي معين . فالفينومينولوجيا تؤمن بالغائية وبأن الوعي يعني انتباها مركزاً مقصوداً على الاشياء ، وبأن الاشياء لا يمكن فهمها بمعزل عن سياقاتها العلائقية التي تضفي عليها معنى سواء كانت هذه السياقات تُدرك بالوعي او بالخبرة الذاتية او بالمشاعر. ومن هنا تميزت التطبيقات الفينومينولوجية وخاصة في الدراسات البنيوية اللغوية بالتركيز على فهم اللغة ليس على انها كلمات او مسميات تصف الاشياء في العالم الخارجي ولكن على انها علاقات بين الكلمات ، وبأن هذه العلاقات هي التي تخلق المعنى من خلال السياق. وقد قدمت مناهج التحليل اللغوي كمنهج تحليل المضمون ، ومنهج التحليل الرمزي ، ومنهج التفسير التأويلي في العلوم الاجتماعية نتائج ممتازه في الوصول الى كثير من المعارف حول جوانب لم تكن مدركة او معروفة في الحياة الاجتماعية وفي اشكال الانتاج الفكري والثقافي.
من الناحية التطبيقية ، فإن الفينومينولوجيا أقرب في منهجياتها لمنهجيات العلوم الاجتماعية في العالم الثالث ، حيث تتجاوز صعوبات التكميم وضبط العينات، والتحكم بالمتغيرات السببية، والظروف القانونية للاستقصاء المعرفي من المستَجوَبين وغير ذلك. كما تمهد للنمو المعرفي عن طريق تراكم الخبرات الفردية ، والشروح الذاتية للوعي الأجتماعي السائد، وهي مقدمات ضرورية لابد من توافرها قبل الوصول الى مرحلة التكميم. وحيث تعتمد الفينومينولوجيّة على التفسيرات والقراءات الذاتية للأحداث ، وعلى ربط الشواهد ببعضها واستخدام المنطق في ترتيب الاستنتاجات فهي بذلك اقرب للمناهج الانثربولوجية التي تعتمد على المعايشة والمشاركة ، وهي كذلك اقرب للمناهج النفس-اجتماعية التي تعتمد كثيرا على الرؤية الذاتية للمجتمع باعتباره فقط مجموع الأفراد الذين يكونونه ، وهذا يتعارض بوضوح مع الرؤية التقليدية في علم الإجتماع وفي تراث كبار المؤسسين كابن خلدون، واميل دوركايم ، وماركس . وهذه الرؤية تتمثل في أن المجتمع يشكل شيئا او وجودا او وعيا جماعيا يتجاوز عدد افراده ، وفي النظر الى الظواهر الاجتماعية على انها مستقلة تماما عن الأفراد.
بقيت كلمة أخيرة تختص بالفينومينولوجيا وتطبيقاتها في العالم العربي. في الحقيقة أن القارىء بتمعنٍ للتراث الفلسفي الغربي يجد جذورا فلسفية شديدة الشبه بما كان موجوداً في الناتج الفكري للحضارة العربية الاسلامية في مراحل ازدهارها. إن الجدل حول حقيقة العالم ، وعن كون الماهية او المعنى يمكن استقراؤه من الخارج عن طريق الحواس الخارجية ، أو انه يمكن استشرافه عن طريق استقراء ماهياته الداخلية الذاتية موجود في عمق المذاهب الاسلامية التي ازدهرت في اوج الحضارة العربيةالاسلامية ، والتي اختلفت في تفسيراتها للحقيقة المطلقة ان كانت ظاهرية ( يستدل عليها بالنص واللفظ الظاهر فقط) ام انها باطنية  علائقية ، توجد حقيقتها في ماهيةٍ سياقيةٍ تتجاوز الظاهر الذي يدركه عامة الناس ، لتصبح حكراً على طبقة متأملة مدربة تدريباً عالياً على التأمل الماهي المتجاوز. لقد وُجد هذا المذهب الفكري في بعض الحركات الصوفية ، ولدى الفقهاء المتكلمين من الاشاعرة وفي فكر المعتزلة ولدى قئة من المثقفين في العصور االاسلامية المختلفة .
ويستحضرني في هذا السياق حول المناهج الفينومينولوجية جانبان هامان :
اولهما أن الاسهام الاكبر الذي قدمته الفينومينولوجيا يتمثل في اعادة الاعتبار للوعي الفردي ، وللفهم ، والادراك ، وللمشاعر باعتبارها ادوات او وسائط تساعد في فهم العالم الخارجي واستيعابه وبالتالي في انتاج المعرفة. هذا الاتجاه يتعارض تعارضاً تاماً مع المنظور التقليدي في العلوم الطبيعية الذي ينادي بالفصل الكلي الكامل بين الموضوع المدروس والذات الدارسة ، وافتراض أن الحقيقة توجد كاملة بمقدار ما يتحقق هذا الفصل بين الجانبين. لقد ظل هسرل ينادي بأن الجانب الاساس في المنهج الفينومينولوجي هو ربط الفهم العقلي الخالص للوجود والاشياء بالخبرة اليومية المعاشة للناس . وهذه القدرة  التي اصر عليها الفينومينولوجون في ربط المجرد بالواقعي ، وبين التنظير المجرد ومعطيات الحياة اليومية قليلاً ما نراها لدى مفكرينا المعاصرين في غالبية الاصعدة والمجالات . ففي مجال التعليم مثلاً أعتقد أن جزء ًمن الداء العياء في نظامنا التعليمى سواءً في مراحل التعليم العام او الجامعي هو الفشل الذريع في التأسيس الواقعي للفكر المثالي ( واهم جوانبه الفكر الديني ) كمعطى. وهنا يقع الانفصام الكامل بين ما يُدرّس في المنهج المدرسي - كفكر مجرد- وبين ما يُعاش واقعياً في أحداث الحياة اليوميه . وتظل شواهد الانفصام شديدة الوضوح في أن انماط التفكير والسلوك السائدة في الحياة االيومية للناس توجد في انفصال كامل ولا علاقة لها بأي ابنية مثالية او عقائدية او قيمية او سلوكية يتم طرحها عن طريق التعليم . انني هنا انظر بكثير من التقدير لهذه المقدرة التي احرزها الفينومينولوجيين في جذب العلاقات الكامنه في عالم الاشياء المجردة او المثالية الى أن تكون مرتبطة جذريا بالحياة الواقعية المعاشة  وبالخبرة المباشرة للناس. 
اما الجانب الثاني فهو التساؤل المعرفي حول المدى الذي أثرت فيه الحركات الفكرية الاسلامية المتقدمة ( المذاهب الظاهرية والباطنية والصوفية ومذاهب التحليل الرمزي والسياقي للغة وتفاسير النصوص الدينية) على الحركة الفلسفية الغربية المعاصرة ؟. هذا التساؤل مشروع تماماً في ظل النظر الى أن حركة اليقظة والنهضة الاوربية كانت قد اعتمدت بشكل كبير جدا على الترجمات التي قام بها العلماء العرب المسلمون للتراث الفلسفي اليوناني . فالى أي مدى تأثرت هذه الترجمات بالوعي الذاتي للمترجمين ، وبطريقتهم في الفهم والادراك والاستيعاب ؟ والى أي مدى حملت هذه الترجمات جوانب من الخبرة الذاتية وجوانب من الرؤية الاجتماعية للمترجمين العرب أنفسهم ؟ خاصة في ظل غياب كامل في ذلك العصر لأي تراث معرفي يؤسس لمفاهيم وشروط تحقيق الموضوعية والابتعاد عن الذاتية والخلوص من القيم المسبقة والتزام الحياد في الترجمة والنقل . من الناحية الفينومينولوجية ، فان أي انتاج معرفي مهما كان حجمه ، فهو يمر بعملية استدخال للمعطيات المعرفية ومن ثم يمر بعملية اخصاب وتدوير وتمثيل لهذه المعطيات لتخرج في النهاية بصبغة يصعب معها كثيرا فصل العوامل الذاتية عن العوامل الموضوعية ! والسؤال الآن : الى أي مدى تأثر الفكر اليوناني والفلسفة اليونانية بالفكر العربي والاسلامي أثناء عملية الترجمة قبل نقله الى اوربا؟ ما الاجزاء التي أبقيت ، والتي حُذفت ، والتي عُدلت ، والتي غُيرت ، والتي اختزلت ، والتي اضيفت الى ذلك التراث اليوناني؟ هل حقيقة أن الفكر اليوناني قد نقل برمته خالصاً " نظيفاً" الى اوربا بدون أي تأثير عربي او اسلامي بأي شكل كان ؟ أنا شخصياً اشك كثيرا في ذلك ، ولطالما بهرني تشابه كثير من النظريات السوسيولوجية مع جوانب كانت قد أُسست بعمق في محتوى المعطى الثقافي للحضارة العربية الاسلامية . أحيانا أقرأ بعض النظريات – او اجزاء منها- وكانني اقرأ في منجز فكري عربي قد اعيد صياغته وتقديمه لينفصل تماماً عن ذلك الاصل الأول. أين يمكن تحديد الاصالة والنقل في مثل هذه الحالات ؟ وما تأثير المركزية العرقية الأوربية في مثل هذا التصور حول اصالة الافكار وابداعيتها وكأنها ولدت بمعزل عن المنتج الفكري للحضارات الاخرى وخاصة الحضارة العربية الاسلامية ؟
 هذا السؤال المعرفي ذو أهمية يثقل حملها على الاجيال العربية الحالية ، بالنظر الى وضع العلوم عندنا ، وكذلك الهامش الضيق جداً للحريات الاكاديمية المتاحة أيضا ، ولكن يبقى السؤال مطروحا ربما للأجيال القادمه ، عسى أن تكون الاجابة في حجم الحقيقة. وشكرا




[1] هذا الموضوع سيكون مطروحاً للنشر في مجلة المبتعث في عددها القادم باذن الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق