ثنائية الموت والحياة

الجمعة، 26 ديسمبر 2014



ثنائية الموت والحياة
د. فاطمة بنت عبدالله السليم

       لا شك بأن الموت هو التحدي الحقيقي للحياة ، وهو الحدث الفاصل الذي تتوقف به الحياة عن الاستمرار . يحمل الموت في دواعيه كثير اً من الجوانب البيولوجية والنفسية والروحية والمادية والطقوسية والرمزية. وتستقر خبرة الانسان عن موت أحد الأقارب أو الأحباء في أعماق طبقاته النفسية والشعورية . الموت كان ومازال هاجساً يقلق البال ، ويبعث الرعب  والترقب،  ويثير رغبة الانسان القصوى بالتمسك بالحياة .  الموت رحلة من الحركة الى الجمود ، من الوعي الى العدم ، ومن النمو الى الفناء . يعتقد كثير من علماء النفس في القرن الماضي بأن الخوف من الموت هو الدافع الحقيقي لبناء الانسان للحضارة ، فكل المنجزات التي أحرزها الانسان عبر تاريخة القصير نسبياً كانت هرباً من الموت ، وبحثاً  لا يتوقف عن الخلود والامتداد والاستمرار.
       يقال في التراث الانثروبولوجي بأن الموت جاء الى الوجود مع تطور وعي الانسان ، لأن الموت كحدث فيزيائي موجود لدى جميع الكائنات الحية ، ولكن الانسان هو الحيوان الوحيد الذي يعي الموت كحدث شعوري صادم .  ورغم حضور الموت كحقيقة ثابتة منذ اللحظة التي يبدأ فيها الميلاد الا أن الله قد ركّب عقل الانسان ووهبه من غرائز الحياة[1] بما يساعده على نسيان هذه الحقيقة وربما إنكارها أو تحييدها عن مجرى الوعي اليومي بالحياة .
     الموت في حقيقته لدى الانسان يختلف عنه لدى جميع الكائنات الأخرى  ، فهو يتجاوز توقف الاعضاء عن العمل ، وهمود قوى الحياة  في الجسد،لأنه يعني أكثر ما يعني انقطاع الميت عن الوعي .  وبناء على هذا المعطى فإن جميع أشكال انقطاع الوعي لدى الانسان تتطابق مع حقيقة الموت . النوم أحد أبرز الاشكال التي ينقطع فيها الوعي ، ومن هنا سماه المسلمون " الموت الأصغر" . الغيبوبات سواء حدثت بسب أعطاب في المخ ، أو بتدخل الانسان عن طريق تناول المخدرات او الكحول جميعها أشكال تقترب من الموت المؤقت .
       ويعتقد كثير من الأنثروبولوجيين بأن وعي الإنسان بالموت والفناء  كان هو السبب الرئيس في نشأة الدين[2] ، حيث أن الدين ظاهرة اجتماعية عامة توجد عند جميع المجتمعات الانسانية بدون استثناء  . وقد ذهب "باخوفن " وهو من أبرز الانثروبولوجيين الذين تزعموا المدرسة التطورية في القرن التاسع عشر بأن المجتمعات البدائية والمجتمعات القديمة كالمصريين القدماء والبابليين والآشوريين  والصينيين وبعض قبائل افريقيا  وأمريكا الشمالية و كذلك الهنود قد نشأ الدين لديها نتيجة لصدمة وعي الانسان بالموت ، ولأن وعي الانسان  بنفسه وبما حوله أكبر بكثير من زمن الحياة القصير أمامه فقد كان هذا هو العامل الحاسم في  بحث الانسان الأبدي عن الخلود والاستمرار بعد الموت . فنشأت فكرة البعث بعد الموت عند قدماء المصريين، وفكرة الخلود عبر التناسخ  وارتحال الأرواح  من جسد الى آخر عند الهنود.  وقد وصف البابليون الحياة الدنيا بأنها " بيت من تراب" ، وبأن الموت طريق" اللاعودة" ، وقد وجدت أفكار مماثلة لدى أقوام لاحقة عملت على تكريس الحياة لخدمة ما بعد الموت  كسبيل لبحث الانسان الأبدي عن الاستمرار والخلود ، وكنوع من تسكين وعي الأنسان بحقيقة الفناء المحتوم .
        وهكذا كان اختيار كتابة هذا المقال عن ثنائية الموت والحياة انعكاساً لخبرة قريبة مر بها الدكتور أحمد الاسود  في وفاة أحد أقرب أصدقائه الى قلبه ( تركي المسلم) عندما كنا نقضي إجازة قصيرة في كاليفورنيا في عطلة الكريسماس الماضي ، وقد كتب الدكتور أحمد مقالة عن صديقه تركي في العدد الأخير من مجلة المبتعث.
       كانت الاجازة  في كاليفورنيا مرتعاً للمتعة الغامرة والتي زادها اجتماع  الشمل مع الاولاد في منزل صغير استأجرناه في أحد ضواحي لوس انجلوس .  كان الجو جميلاً  زاده جمالاً ذلك الطابع المتوسطي او الاندلسي لمباني ضواحي لوس انجلوس ، وطبيعة اشجارها وبيئتها المادية المتميزة . كما كان وجود قطتين لصاحبة المنزل تزوراننا يوميا بعداً آخر للمتعة والبهجة .
       مضى يومان أو ثلاثة من وقت الزيارة  الى كاليفورنيا ، وفي صباح اليوم الرابع استقبل الدكتور احمد مكالمة هاتفية من السعودية تنبئه بوفاة أحد أعز أصدقائه الى قلبه  " تركي المسلم" . هذا الخبر وقع عليه  بغتة من حيث لم يحتسب ، حيث أصيب بنوع من الذهول المؤقت ، ولعله غاب بضع دقائق عما حوله من أحداث . ثم ترك طاولة الافطار وانزوى في غرفة النوم مغلقاً وراءه الباب .  ولاذ الاولاد في صمت مطبق .. بقي أياماً في حزن شديد لازم شغاف قلبه ، فأطبق عن الكلام ، واكفهر وجهه ، كان يصحو ليلاً من النوم  لعدة مرات متقطعة ، يجفوه النوم فيلازم ظلام الغرفة بعض وقت، ثم يعاود محاولة النوم مرة أخرى . ثم انخرط بعد ذلك في رحلة روحية غمسته حتى القرار في رؤى الموت والحياة .
       هذه الخبرة القريبة التي مر بها الدكتور احمد عكرت صفو الاجازة ، وقلبت الحلاوة الى مرارة ، وأبدلت صفو الاجتماع  بتجرع الحزن والشجن ، واستدعت في قوافيها عدداً من المناقشات  مع الاولاد حول جوانب غزيرة جداً ترتبط بالموت كحدث ملازم ضروري تنتهي به رحلة الحياة ،  ولعله من غريب الصدف أن أكون قد أكملت قراءة كتاب عالم الاجتماع الفرنسي جيان بودريلار Jean Baudrillard  حول رمزية الحياة والموت  قبل هذا الوقت بأشهر قليلة ، وهو كتاب قديم يرجع الى اواسط سبعينيات القرن الماضي إلا أنه مازال يحتفظ بكثير من الوزن المعرفي الذي يغري بقراءة الكتاب والاستمتاع به .
         ولعله من نافلة القول أن صدمة الموت الاولى التي يخبرها الانسان في زمن الطفولة تظل محفورة في الذهن كخبرة راسخة لا تنسى . استدعت هذه الحادثة ذكرى وفاة جدي لأمي يرحمه الله في منزلنا وأنا طفلة في الثامنة . وكانت هذه الخبرة أول  مرة أعي فيها ماذا يعني الموت ، وأول مرة أتذوق فيها طعم الحزن لفقدان أحد الاحباء في تلك السن المبكرة من عمر الطفولة .  لم أكن أعي معنى الموت قبل ذلك الوقت ، ولم أكُ أدري ماذا يعني رحيل شخص حبيب لن تراه بقية عمرك الى الأبد . ولقد كانت لدي تصورات عجيبة عن الموت عندما كنت صغيرة . كنت أحدق بعجب في الحيوانات الميتة ، إما فراخ الدجاج ، أو الاغنام  أو العجول التي يصدف أن تموت عندنا في المزرعة . كان منظرها مسجاة على الارض في جمود عجيب بأعين مفتوحة ، ولسان يتدلى على أحد جوانب الفم منظراً  يحمل بعض المهابة والخوف وعدم الفهم . كانوا يقولون لي أن عزرائيل ملك الموت ينتقي ويحدد ضحاياه في رمضان من كل سنة ، ثم يزورهم تباعاً على مدار العام . رأيت مرة جثة صقر كبير أو لعله كان أحد الطيور الجوارح  وقد تشوهت جثته قليلاً بفعل العفن والتحلل ، فتصورت أن عزرائيل ملك الموت يشبه الى حد ما منظر هذا الطير المخيف ، ولعله كان يطير ونحن لا نراه لينقر صدور ضحاياه ويخرج الروح منها لتصعد الى بارئها في السماء .
         انتقل جدي للمعيشة معنا في منزلنا في وسط مزرعة والدي في عنيزة قبل وفاته بأربع سنوات ، حيث لم تعجبه المعيشة مع ابنه الاكبر وزوجته الاجنبية . كان منزلنا يضم والدي ووالدتي ونحن الاربعة وعمتي وجدتي لأمي  ، وبعض المزارعين  الذين يسكنون في بيت قصي من المزرعة .  جدي كان رجلاً فاضلاً  عمل قاضياً في محكمة بريدة طوال عمره الذي ناهز التسعين عاماً . ولد في مصر  حيث كان والده يتردد عليها في زمن رحلات " العقيلات"[3] ، وعاش فيها حتى سن الحادية عشرة حيث حفظ القرآن كاملاً ، ثم انتقل الى العراق وتلقى فيها علومه الدينية وموسوعة من المعارف المتداولة في ذلك الزمن . كان وجوده في عائلتنا مصدر كثير من البهجة ، والاستكشاف ، والدهشة التي بدأت تنفتح لها عقولنا الغضة في مواجهة شيخ كبير عركته الحياة والقمته التجارب زاداً من الخبرات الغزيرة الثرة ، وكابد ضروب الحوادث  وتقلب الايام حتى صقلت عقله الحكمة . وكان من أجمل الاوقات أن نحضر له قهوة الضحى مع التمر ، ويحكي لنا قصصاً وقعت احداثها في القصيم في زمن ليس ببعيد عن زمنه ،كالحروب الطاحنة بين حائل والقصيم ، وحوادث " الفضّات والسطوات " [4]على عنيزة وبريدة ، وقصص الحنشل [5]، وقصص حقيقية أخرى عن  الحوادث التي يتعرض لها بعض الاشخاص  حين يخرجون الى البر لجمع الحشيش او من أجل التبعيل[6] . من بين هذه القصص قصص الناس الذين اكلتهم الذئاب  او الضباع الجائعة في البر ، او الاطفال المواليد الذين نهشت سحالي الورل أجزاء من أجسادهم ، أو قصص الكلاب المسعورة ، وقصص كثيرة أخرى لا أكاد اذكرها جميعها لطول العهد بها .
        مرض جدي بحمى شديدة قبل موته بأسبوع ، ورقد في فراشه يتململ ويهذي  ، واحضر والدي طبيباً ظل يتردد عليه حتى آخر نفس . اسلم جدي الروح ليلاً في وقت قريب من صلاة العشاء ، دخلت امي غرفته فوجدته بلا حراك وقد فارقت حرارة الحمى جسده لتحل محلها برودة الموت، وانفجرت أمي في بكاء مفجع لا زلت اذكره حتى الآن . ران على البيت حزن شديد ، ومازلت اذكر امي وعمتي وجدتي ووالدي كل منهم قد لاذ بنفسه او اجهش ببكاء صامت .
وفي الغد جهز والدي للجنازة ، عشرة رجال حضروا وأحضروا معهم أواني للماء ومادة خضراء من مسحول ورق الشجر ، وروائح غريبة ما زالت تزور ذاكرتي بين وقت وآخر رغم تباعد الزمن .  اما انا فكان قلبي مفعماً بالحزن واللوعة ، أرى أماكنه التي يجلس فيها ، وأخال أنني أسمع صوته المتهدج  يناديني " يافطيمه جيبي لي تمر "  من خلف  الأبواب وفي منعطفات البيت فتغتال انفاسي غصة تكاد تقتلني . قرآنه الذي ظل مفتوحاً على ركابة خشبية منقوشة ،ومسبحة من الكهرمان كانت هي الاشياء القليلة التي بقيت بعد أن أبعدت أمي كل ما يخصة من أشياء .
       لازمني الحزن اياماً طويلة ، زايلتني فيها شهيتي للطعام ، وعافت نفسي كل صنوف اللعب  واللهو مع البنات ، قبل ذلك كنت اسمع الصغيرات في المدرسة يتصايحن بأدعية لم أكن أفقه معناها  : " وخّري ياملا الموت "، او "اجعلك تموتين الليلة" .أو ياملا الحزن ". أو "ياملا الضربة اللي تهجّدك"  وغيرها من الدعاء فتسري في جسدي رعشة الخوف . منذ أن مات جدي صرت أفهم الموت بوعي آخر، وأعرف ما يعنيه الموت بكل ما له من أبعاد ماحقة لكل ما هو مخضل  وزاخر بالحياة .


د. فاطمة بنت عبدالله السليم




[1] يعتبر علماء البيولوجيا التطورية بأن غريزة الجنس تأتي في مقدمة غرائز الحياة لأنها وسيلة الخلق والخصب والتجديد وحفظ النوع والاستمرار .

[2]  الدين هنا بمعناه الواسع كمؤسسة اجتماعية ومظاهر طقوسية ، ولا يندرج تحت ذلك الديانات السماوية بأي شكل من الاشكال وانما الحديث عام عن ظاهرة التدين لدى الانسان عبر التاريخ.

[3] رحلات العقيلات هي رحلات تجارية عن طريق القوافل يقوم بها أهالي القصيم في زمن ما قبل تأسيس الدولة السعودية الحالية ،  وتجوب القوافل أماكن بعيدة تمتد الى الصين وافغانستان وروسيا شرقاً الى اطراف اوروبا وشمال افريقيا والهند شمالاً وجنوباً .
[4] الفضات والسطوات تعبير دارج عن قيام مجموعة منشقة سياسياً بالتعاون مع جهة خارجية من أجل السطو على المدينة ونهبها وتغيير اميرها والاستيلاء عليها سياسيا واقتصادياً .

[5] الحنشل : قطاع الطرق

[6] التبعيل : زراعة البعل ، وهي زراعة القمح في البر والذي يسقى بماء المطر بدون مؤونة ، فينثر الحب في المكان المناسب ويترك حتى يستوي وينضج ثم يجمع في موسم البعل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق