الفينومينولوجيا وعلم اجتماع الحياة اليومية

الجمعة، 26 ديسمبر 2014



الفينومينولوجيا وعلم اجتماع الحياة اليومية
                                              د. فاطمة بنت عبدالله ابراهيم الســـليم[1]

يناقش هذا المقال علاقة الفينومينولوجيا بمنهجيات العلوم الاجتماعية، وخصوصاً تطبيقاتها الواقعية في العالم الغربي وفي العالم الثالث. وما استرعى انتباهي في كثير مما كتب حول الفينومينولوجيا هو الاعتقاد السائد بأن الفينومينولوجيا قد بدأت تماما على يد ادمون هُسرل وأكملت بماكس شيلر والفرد شوتز وغيرهما ، والحقيقة أن الفينومينولوجيا كفلسفة وقبل أن تتحول الى ميثدولوجيا على يد هسرل كانت جذورها المبكرة قد وجدت قبل هسرل بكثير، تماما في قلب الجدل الفلسفي حول "هل يوجد العالم في العقل"، أم "ان العالم له وجود مستقل خارج العقل"، هذه الفرضيات المبدئية وجدت جذورها ( كما يُعتقد) في الفلسفة اليونانية القديمة في الجدل حول ماهية العالم ومصدره ، وهي التي قادت الفلسفة الاوربية المتأخرة ( القرن 19 والعشرين)، وبناء عليها في منهجيات العلوم الاجتماعية في انتهاج الطرق المزدوجة في الاستفتاء المعرفي: بين التكميم (quantitative Methods الذي يعتمد على الطرق الأستقرائية الرياضية والاحصائية التي تماهي منهجيات العلوم الطبيعية) وبين النوعية الذاتيه (qualitative methods of research ). اذا كان العالم له حقيقة خارج العقل، فالأفضل جمع جزئياته من أجل معرفته بطريقة التكميم ( الاستقراءdeduction )، لأن للمادة في العالم الخارجي وجودا مستقلا عن الذات العارفة ، وهذا ما يسمح  بالموضوعية ، ويحقق امكانية اعادة التجربة بنفس المعطيات او المقدمات والخلوص الى نفس النتائج ، وهو ما يعرف باعادة التجريب replication ما دام الموضوع مستقل عن الذات تماماً . اما اذا كان العالم موجودٌ داخل العقل، و العقل او الوعي هو الذي يعطيه ماهيته وحدوده وتعريفه ، فليس للعالم اذن وجود مستقل عن الذات العارفة ، ومن هنا بدأ التمايز بين مسارين مختلفين في منهجيات العلوم الاجتماعية، وان كان كِلا هذين المسارين قد وجدا جنباً الى جنب في معظم اعمال السوسيولوجيين الكبار وبالأخص اميل دوركايم وماكس فيبر  وكارل ماركس. ومن الواضح أن منهجية هسرل تصر على المنحى الذي يقول بوجود العالم داخل العقل وليس خارجه. حيث يُعتقد أن فلسفة هسرل هي في الاساس فلسفة مثالية مشتقة من مثالية ايمانويل كانط في تاكيده على أن الحقيقة يمكن أن تُدرك بالوعي من خلال ادراك المعنى والوصول الى الفهم وليس بالضرورة عن طريق استخدام الحواس . وهذا المنحى قد انتج طرقا خصبة في البحوث الاجتماعية من أهمها الأثنوميثودولوجيا أو ما يعرف بسوسيولوجيا الحياة اليومية التي اقتبست كثيرا من المشارب الفلسفية للألفرد شولتز وماكس شيلر وخصوصا في اصرارهما على أهمية الخبرة الفردية كمصدر اساسي للوعي الاجتماعي وبالتالي كمصدر للمعرفة ذاتها . وقد قاد ظهور الأثنوميثودولوجيا الى إعادة الاعتبار للمناهج التي تعتمد على السرد القصصي للأحداث Narrative construction of reality . وعلى منهج تحليل اللغة اليومية للمحادثة ، والمنهج الأخير أصبح مصدرا ثريا للنظريات في حقل علم اجتماع المعرفة في فترة ما يعرف " بعلم اجتماع ما بعد الحداثة Postmodern sociology" ، وخاصة النظريات النسوية Feminist theories  في العالم الغربي، والتي تتسيد الآن بلا منازع حقل التنظير الاجتماعي بمختلف مشاربه. والحقيقة أن الفينومينولوجيا قد ارجعت الصبغة العلمية لدراسة الأدب من الناحية السوسيولوجية البحته ، من حيث تاكيدها على أهمية فهم العلاقة بين الانتاج الادبي وكيفية بناء الواقع  في وسط اجتماعي معين . فالفينومينولوجيا تؤمن بالغائية وبأن الوعي يعني انتباها مركزاً مقصوداً على الاشياء ، وبأن الاشياء لا يمكن فهمها بمعزل عن سياقاتها العلائقية التي تضفي عليها معنى سواء كانت هذه السياقات تُدرك بالوعي او بالخبرة الذاتية او بالمشاعر. ومن هنا تميزت التطبيقات الفينومينولوجية وخاصة في الدراسات البنيوية اللغوية بالتركيز على فهم اللغة ليس على انها كلمات او مسميات تصف الاشياء في العالم الخارجي ولكن على انها علاقات بين الكلمات ، وبأن هذه العلاقات هي التي تخلق المعنى من خلال السياق. وقد قدمت مناهج التحليل اللغوي كمنهج تحليل المضمون ، ومنهج التحليل الرمزي ، ومنهج التفسير التأويلي في العلوم الاجتماعية نتائج ممتازه في الوصول الى كثير من المعارف حول جوانب لم تكن مدركة او معروفة في الحياة الاجتماعية وفي اشكال الانتاج الفكري والثقافي.
من الناحية التطبيقية ، فإن الفينومينولوجيا أقرب في منهجياتها لمنهجيات العلوم الاجتماعية في العالم الثالث ، حيث تتجاوز صعوبات التكميم وضبط العينات، والتحكم بالمتغيرات السببية، والظروف القانونية للاستقصاء المعرفي من المستَجوَبين وغير ذلك. كما تمهد للنمو المعرفي عن طريق تراكم الخبرات الفردية ، والشروح الذاتية للوعي الأجتماعي السائد، وهي مقدمات ضرورية لابد من توافرها قبل الوصول الى مرحلة التكميم. وحيث تعتمد الفينومينولوجيّة على التفسيرات والقراءات الذاتية للأحداث ، وعلى ربط الشواهد ببعضها واستخدام المنطق في ترتيب الاستنتاجات فهي بذلك اقرب للمناهج الانثربولوجية التي تعتمد على المعايشة والمشاركة ، وهي كذلك اقرب للمناهج النفس-اجتماعية التي تعتمد كثيرا على الرؤية الذاتية للمجتمع باعتباره فقط مجموع الأفراد الذين يكونونه ، وهذا يتعارض بوضوح مع الرؤية التقليدية في علم الإجتماع وفي تراث كبار المؤسسين كابن خلدون، واميل دوركايم ، وماركس . وهذه الرؤية تتمثل في أن المجتمع يشكل شيئا او وجودا او وعيا جماعيا يتجاوز عدد افراده ، وفي النظر الى الظواهر الاجتماعية على انها مستقلة تماما عن الأفراد.
بقيت كلمة أخيرة تختص بالفينومينولوجيا وتطبيقاتها في العالم العربي. في الحقيقة أن القارىء بتمعنٍ للتراث الفلسفي الغربي يجد جذورا فلسفية شديدة الشبه بما كان موجوداً في الناتج الفكري للحضارة العربية الاسلامية في مراحل ازدهارها. إن الجدل حول حقيقة العالم ، وعن كون الماهية او المعنى يمكن استقراؤه من الخارج عن طريق الحواس الخارجية ، أو انه يمكن استشرافه عن طريق استقراء ماهياته الداخلية الذاتية موجود في عمق المذاهب الاسلامية التي ازدهرت في اوج الحضارة العربيةالاسلامية ، والتي اختلفت في تفسيراتها للحقيقة المطلقة ان كانت ظاهرية ( يستدل عليها بالنص واللفظ الظاهر فقط) ام انها باطنية  علائقية ، توجد حقيقتها في ماهيةٍ سياقيةٍ تتجاوز الظاهر الذي يدركه عامة الناس ، لتصبح حكراً على طبقة متأملة مدربة تدريباً عالياً على التأمل الماهي المتجاوز. لقد وُجد هذا المذهب الفكري في بعض الحركات الصوفية ، ولدى الفقهاء المتكلمين من الاشاعرة وفي فكر المعتزلة ولدى قئة من المثقفين في العصور االاسلامية المختلفة .
ويستحضرني في هذا السياق حول المناهج الفينومينولوجية جانبان هامان :
اولهما أن الاسهام الاكبر الذي قدمته الفينومينولوجيا يتمثل في اعادة الاعتبار للوعي الفردي ، وللفهم ، والادراك ، وللمشاعر باعتبارها ادوات او وسائط تساعد في فهم العالم الخارجي واستيعابه وبالتالي في انتاج المعرفة. هذا الاتجاه يتعارض تعارضاً تاماً مع المنظور التقليدي في العلوم الطبيعية الذي ينادي بالفصل الكلي الكامل بين الموضوع المدروس والذات الدارسة ، وافتراض أن الحقيقة توجد كاملة بمقدار ما يتحقق هذا الفصل بين الجانبين. لقد ظل هسرل ينادي بأن الجانب الاساس في المنهج الفينومينولوجي هو ربط الفهم العقلي الخالص للوجود والاشياء بالخبرة اليومية المعاشة للناس . وهذه القدرة  التي اصر عليها الفينومينولوجون في ربط المجرد بالواقعي ، وبين التنظير المجرد ومعطيات الحياة اليومية قليلاً ما نراها لدى مفكرينا المعاصرين في غالبية الاصعدة والمجالات . ففي مجال التعليم مثلاً أعتقد أن جزء ًمن الداء العياء في نظامنا التعليمى سواءً في مراحل التعليم العام او الجامعي هو الفشل الذريع في التأسيس الواقعي للفكر المثالي ( واهم جوانبه الفكر الديني ) كمعطى. وهنا يقع الانفصام الكامل بين ما يُدرّس في المنهج المدرسي - كفكر مجرد- وبين ما يُعاش واقعياً في أحداث الحياة اليوميه . وتظل شواهد الانفصام شديدة الوضوح في أن انماط التفكير والسلوك السائدة في الحياة االيومية للناس توجد في انفصال كامل ولا علاقة لها بأي ابنية مثالية او عقائدية او قيمية او سلوكية يتم طرحها عن طريق التعليم . انني هنا انظر بكثير من التقدير لهذه المقدرة التي احرزها الفينومينولوجيين في جذب العلاقات الكامنه في عالم الاشياء المجردة او المثالية الى أن تكون مرتبطة جذريا بالحياة الواقعية المعاشة  وبالخبرة المباشرة للناس. 
اما الجانب الثاني فهو التساؤل المعرفي حول المدى الذي أثرت فيه الحركات الفكرية الاسلامية المتقدمة ( المذاهب الظاهرية والباطنية والصوفية ومذاهب التحليل الرمزي والسياقي للغة وتفاسير النصوص الدينية) على الحركة الفلسفية الغربية المعاصرة ؟. هذا التساؤل مشروع تماماً في ظل النظر الى أن حركة اليقظة والنهضة الاوربية كانت قد اعتمدت بشكل كبير جدا على الترجمات التي قام بها العلماء العرب المسلمون للتراث الفلسفي اليوناني . فالى أي مدى تأثرت هذه الترجمات بالوعي الذاتي للمترجمين ، وبطريقتهم في الفهم والادراك والاستيعاب ؟ والى أي مدى حملت هذه الترجمات جوانب من الخبرة الذاتية وجوانب من الرؤية الاجتماعية للمترجمين العرب أنفسهم ؟ خاصة في ظل غياب كامل في ذلك العصر لأي تراث معرفي يؤسس لمفاهيم وشروط تحقيق الموضوعية والابتعاد عن الذاتية والخلوص من القيم المسبقة والتزام الحياد في الترجمة والنقل . من الناحية الفينومينولوجية ، فان أي انتاج معرفي مهما كان حجمه ، فهو يمر بعملية استدخال للمعطيات المعرفية ومن ثم يمر بعملية اخصاب وتدوير وتمثيل لهذه المعطيات لتخرج في النهاية بصبغة يصعب معها كثيرا فصل العوامل الذاتية عن العوامل الموضوعية ! والسؤال الآن : الى أي مدى تأثر الفكر اليوناني والفلسفة اليونانية بالفكر العربي والاسلامي أثناء عملية الترجمة قبل نقله الى اوربا؟ ما الاجزاء التي أبقيت ، والتي حُذفت ، والتي عُدلت ، والتي غُيرت ، والتي اختزلت ، والتي اضيفت الى ذلك التراث اليوناني؟ هل حقيقة أن الفكر اليوناني قد نقل برمته خالصاً " نظيفاً" الى اوربا بدون أي تأثير عربي او اسلامي بأي شكل كان ؟ أنا شخصياً اشك كثيرا في ذلك ، ولطالما بهرني تشابه كثير من النظريات السوسيولوجية مع جوانب كانت قد أُسست بعمق في محتوى المعطى الثقافي للحضارة العربية الاسلامية . أحيانا أقرأ بعض النظريات – او اجزاء منها- وكانني اقرأ في منجز فكري عربي قد اعيد صياغته وتقديمه لينفصل تماماً عن ذلك الاصل الأول. أين يمكن تحديد الاصالة والنقل في مثل هذه الحالات ؟ وما تأثير المركزية العرقية الأوربية في مثل هذا التصور حول اصالة الافكار وابداعيتها وكأنها ولدت بمعزل عن المنتج الفكري للحضارات الاخرى وخاصة الحضارة العربية الاسلامية ؟
 هذا السؤال المعرفي ذو أهمية يثقل حملها على الاجيال العربية الحالية ، بالنظر الى وضع العلوم عندنا ، وكذلك الهامش الضيق جداً للحريات الاكاديمية المتاحة أيضا ، ولكن يبقى السؤال مطروحا ربما للأجيال القادمه ، عسى أن تكون الاجابة في حجم الحقيقة. وشكرا




[1] هذا الموضوع سيكون مطروحاً للنشر في مجلة المبتعث في عددها القادم باذن الله.

ثنائية الموت والحياة



ثنائية الموت والحياة
د. فاطمة بنت عبدالله السليم

       لا شك بأن الموت هو التحدي الحقيقي للحياة ، وهو الحدث الفاصل الذي تتوقف به الحياة عن الاستمرار . يحمل الموت في دواعيه كثير اً من الجوانب البيولوجية والنفسية والروحية والمادية والطقوسية والرمزية. وتستقر خبرة الانسان عن موت أحد الأقارب أو الأحباء في أعماق طبقاته النفسية والشعورية . الموت كان ومازال هاجساً يقلق البال ، ويبعث الرعب  والترقب،  ويثير رغبة الانسان القصوى بالتمسك بالحياة .  الموت رحلة من الحركة الى الجمود ، من الوعي الى العدم ، ومن النمو الى الفناء . يعتقد كثير من علماء النفس في القرن الماضي بأن الخوف من الموت هو الدافع الحقيقي لبناء الانسان للحضارة ، فكل المنجزات التي أحرزها الانسان عبر تاريخة القصير نسبياً كانت هرباً من الموت ، وبحثاً  لا يتوقف عن الخلود والامتداد والاستمرار.
       يقال في التراث الانثروبولوجي بأن الموت جاء الى الوجود مع تطور وعي الانسان ، لأن الموت كحدث فيزيائي موجود لدى جميع الكائنات الحية ، ولكن الانسان هو الحيوان الوحيد الذي يعي الموت كحدث شعوري صادم .  ورغم حضور الموت كحقيقة ثابتة منذ اللحظة التي يبدأ فيها الميلاد الا أن الله قد ركّب عقل الانسان ووهبه من غرائز الحياة[1] بما يساعده على نسيان هذه الحقيقة وربما إنكارها أو تحييدها عن مجرى الوعي اليومي بالحياة .
     الموت في حقيقته لدى الانسان يختلف عنه لدى جميع الكائنات الأخرى  ، فهو يتجاوز توقف الاعضاء عن العمل ، وهمود قوى الحياة  في الجسد،لأنه يعني أكثر ما يعني انقطاع الميت عن الوعي .  وبناء على هذا المعطى فإن جميع أشكال انقطاع الوعي لدى الانسان تتطابق مع حقيقة الموت . النوم أحد أبرز الاشكال التي ينقطع فيها الوعي ، ومن هنا سماه المسلمون " الموت الأصغر" . الغيبوبات سواء حدثت بسب أعطاب في المخ ، أو بتدخل الانسان عن طريق تناول المخدرات او الكحول جميعها أشكال تقترب من الموت المؤقت .
       ويعتقد كثير من الأنثروبولوجيين بأن وعي الإنسان بالموت والفناء  كان هو السبب الرئيس في نشأة الدين[2] ، حيث أن الدين ظاهرة اجتماعية عامة توجد عند جميع المجتمعات الانسانية بدون استثناء  . وقد ذهب "باخوفن " وهو من أبرز الانثروبولوجيين الذين تزعموا المدرسة التطورية في القرن التاسع عشر بأن المجتمعات البدائية والمجتمعات القديمة كالمصريين القدماء والبابليين والآشوريين  والصينيين وبعض قبائل افريقيا  وأمريكا الشمالية و كذلك الهنود قد نشأ الدين لديها نتيجة لصدمة وعي الانسان بالموت ، ولأن وعي الانسان  بنفسه وبما حوله أكبر بكثير من زمن الحياة القصير أمامه فقد كان هذا هو العامل الحاسم في  بحث الانسان الأبدي عن الخلود والاستمرار بعد الموت . فنشأت فكرة البعث بعد الموت عند قدماء المصريين، وفكرة الخلود عبر التناسخ  وارتحال الأرواح  من جسد الى آخر عند الهنود.  وقد وصف البابليون الحياة الدنيا بأنها " بيت من تراب" ، وبأن الموت طريق" اللاعودة" ، وقد وجدت أفكار مماثلة لدى أقوام لاحقة عملت على تكريس الحياة لخدمة ما بعد الموت  كسبيل لبحث الانسان الأبدي عن الاستمرار والخلود ، وكنوع من تسكين وعي الأنسان بحقيقة الفناء المحتوم .
        وهكذا كان اختيار كتابة هذا المقال عن ثنائية الموت والحياة انعكاساً لخبرة قريبة مر بها الدكتور أحمد الاسود  في وفاة أحد أقرب أصدقائه الى قلبه ( تركي المسلم) عندما كنا نقضي إجازة قصيرة في كاليفورنيا في عطلة الكريسماس الماضي ، وقد كتب الدكتور أحمد مقالة عن صديقه تركي في العدد الأخير من مجلة المبتعث.
       كانت الاجازة  في كاليفورنيا مرتعاً للمتعة الغامرة والتي زادها اجتماع  الشمل مع الاولاد في منزل صغير استأجرناه في أحد ضواحي لوس انجلوس .  كان الجو جميلاً  زاده جمالاً ذلك الطابع المتوسطي او الاندلسي لمباني ضواحي لوس انجلوس ، وطبيعة اشجارها وبيئتها المادية المتميزة . كما كان وجود قطتين لصاحبة المنزل تزوراننا يوميا بعداً آخر للمتعة والبهجة .
       مضى يومان أو ثلاثة من وقت الزيارة  الى كاليفورنيا ، وفي صباح اليوم الرابع استقبل الدكتور احمد مكالمة هاتفية من السعودية تنبئه بوفاة أحد أعز أصدقائه الى قلبه  " تركي المسلم" . هذا الخبر وقع عليه  بغتة من حيث لم يحتسب ، حيث أصيب بنوع من الذهول المؤقت ، ولعله غاب بضع دقائق عما حوله من أحداث . ثم ترك طاولة الافطار وانزوى في غرفة النوم مغلقاً وراءه الباب .  ولاذ الاولاد في صمت مطبق .. بقي أياماً في حزن شديد لازم شغاف قلبه ، فأطبق عن الكلام ، واكفهر وجهه ، كان يصحو ليلاً من النوم  لعدة مرات متقطعة ، يجفوه النوم فيلازم ظلام الغرفة بعض وقت، ثم يعاود محاولة النوم مرة أخرى . ثم انخرط بعد ذلك في رحلة روحية غمسته حتى القرار في رؤى الموت والحياة .
       هذه الخبرة القريبة التي مر بها الدكتور احمد عكرت صفو الاجازة ، وقلبت الحلاوة الى مرارة ، وأبدلت صفو الاجتماع  بتجرع الحزن والشجن ، واستدعت في قوافيها عدداً من المناقشات  مع الاولاد حول جوانب غزيرة جداً ترتبط بالموت كحدث ملازم ضروري تنتهي به رحلة الحياة ،  ولعله من غريب الصدف أن أكون قد أكملت قراءة كتاب عالم الاجتماع الفرنسي جيان بودريلار Jean Baudrillard  حول رمزية الحياة والموت  قبل هذا الوقت بأشهر قليلة ، وهو كتاب قديم يرجع الى اواسط سبعينيات القرن الماضي إلا أنه مازال يحتفظ بكثير من الوزن المعرفي الذي يغري بقراءة الكتاب والاستمتاع به .
         ولعله من نافلة القول أن صدمة الموت الاولى التي يخبرها الانسان في زمن الطفولة تظل محفورة في الذهن كخبرة راسخة لا تنسى . استدعت هذه الحادثة ذكرى وفاة جدي لأمي يرحمه الله في منزلنا وأنا طفلة في الثامنة . وكانت هذه الخبرة أول  مرة أعي فيها ماذا يعني الموت ، وأول مرة أتذوق فيها طعم الحزن لفقدان أحد الاحباء في تلك السن المبكرة من عمر الطفولة .  لم أكن أعي معنى الموت قبل ذلك الوقت ، ولم أكُ أدري ماذا يعني رحيل شخص حبيب لن تراه بقية عمرك الى الأبد . ولقد كانت لدي تصورات عجيبة عن الموت عندما كنت صغيرة . كنت أحدق بعجب في الحيوانات الميتة ، إما فراخ الدجاج ، أو الاغنام  أو العجول التي يصدف أن تموت عندنا في المزرعة . كان منظرها مسجاة على الارض في جمود عجيب بأعين مفتوحة ، ولسان يتدلى على أحد جوانب الفم منظراً  يحمل بعض المهابة والخوف وعدم الفهم . كانوا يقولون لي أن عزرائيل ملك الموت ينتقي ويحدد ضحاياه في رمضان من كل سنة ، ثم يزورهم تباعاً على مدار العام . رأيت مرة جثة صقر كبير أو لعله كان أحد الطيور الجوارح  وقد تشوهت جثته قليلاً بفعل العفن والتحلل ، فتصورت أن عزرائيل ملك الموت يشبه الى حد ما منظر هذا الطير المخيف ، ولعله كان يطير ونحن لا نراه لينقر صدور ضحاياه ويخرج الروح منها لتصعد الى بارئها في السماء .
         انتقل جدي للمعيشة معنا في منزلنا في وسط مزرعة والدي في عنيزة قبل وفاته بأربع سنوات ، حيث لم تعجبه المعيشة مع ابنه الاكبر وزوجته الاجنبية . كان منزلنا يضم والدي ووالدتي ونحن الاربعة وعمتي وجدتي لأمي  ، وبعض المزارعين  الذين يسكنون في بيت قصي من المزرعة .  جدي كان رجلاً فاضلاً  عمل قاضياً في محكمة بريدة طوال عمره الذي ناهز التسعين عاماً . ولد في مصر  حيث كان والده يتردد عليها في زمن رحلات " العقيلات"[3] ، وعاش فيها حتى سن الحادية عشرة حيث حفظ القرآن كاملاً ، ثم انتقل الى العراق وتلقى فيها علومه الدينية وموسوعة من المعارف المتداولة في ذلك الزمن . كان وجوده في عائلتنا مصدر كثير من البهجة ، والاستكشاف ، والدهشة التي بدأت تنفتح لها عقولنا الغضة في مواجهة شيخ كبير عركته الحياة والقمته التجارب زاداً من الخبرات الغزيرة الثرة ، وكابد ضروب الحوادث  وتقلب الايام حتى صقلت عقله الحكمة . وكان من أجمل الاوقات أن نحضر له قهوة الضحى مع التمر ، ويحكي لنا قصصاً وقعت احداثها في القصيم في زمن ليس ببعيد عن زمنه ،كالحروب الطاحنة بين حائل والقصيم ، وحوادث " الفضّات والسطوات " [4]على عنيزة وبريدة ، وقصص الحنشل [5]، وقصص حقيقية أخرى عن  الحوادث التي يتعرض لها بعض الاشخاص  حين يخرجون الى البر لجمع الحشيش او من أجل التبعيل[6] . من بين هذه القصص قصص الناس الذين اكلتهم الذئاب  او الضباع الجائعة في البر ، او الاطفال المواليد الذين نهشت سحالي الورل أجزاء من أجسادهم ، أو قصص الكلاب المسعورة ، وقصص كثيرة أخرى لا أكاد اذكرها جميعها لطول العهد بها .
        مرض جدي بحمى شديدة قبل موته بأسبوع ، ورقد في فراشه يتململ ويهذي  ، واحضر والدي طبيباً ظل يتردد عليه حتى آخر نفس . اسلم جدي الروح ليلاً في وقت قريب من صلاة العشاء ، دخلت امي غرفته فوجدته بلا حراك وقد فارقت حرارة الحمى جسده لتحل محلها برودة الموت، وانفجرت أمي في بكاء مفجع لا زلت اذكره حتى الآن . ران على البيت حزن شديد ، ومازلت اذكر امي وعمتي وجدتي ووالدي كل منهم قد لاذ بنفسه او اجهش ببكاء صامت .
وفي الغد جهز والدي للجنازة ، عشرة رجال حضروا وأحضروا معهم أواني للماء ومادة خضراء من مسحول ورق الشجر ، وروائح غريبة ما زالت تزور ذاكرتي بين وقت وآخر رغم تباعد الزمن .  اما انا فكان قلبي مفعماً بالحزن واللوعة ، أرى أماكنه التي يجلس فيها ، وأخال أنني أسمع صوته المتهدج  يناديني " يافطيمه جيبي لي تمر "  من خلف  الأبواب وفي منعطفات البيت فتغتال انفاسي غصة تكاد تقتلني . قرآنه الذي ظل مفتوحاً على ركابة خشبية منقوشة ،ومسبحة من الكهرمان كانت هي الاشياء القليلة التي بقيت بعد أن أبعدت أمي كل ما يخصة من أشياء .
       لازمني الحزن اياماً طويلة ، زايلتني فيها شهيتي للطعام ، وعافت نفسي كل صنوف اللعب  واللهو مع البنات ، قبل ذلك كنت اسمع الصغيرات في المدرسة يتصايحن بأدعية لم أكن أفقه معناها  : " وخّري ياملا الموت "، او "اجعلك تموتين الليلة" .أو ياملا الحزن ". أو "ياملا الضربة اللي تهجّدك"  وغيرها من الدعاء فتسري في جسدي رعشة الخوف . منذ أن مات جدي صرت أفهم الموت بوعي آخر، وأعرف ما يعنيه الموت بكل ما له من أبعاد ماحقة لكل ما هو مخضل  وزاخر بالحياة .


د. فاطمة بنت عبدالله السليم




[1] يعتبر علماء البيولوجيا التطورية بأن غريزة الجنس تأتي في مقدمة غرائز الحياة لأنها وسيلة الخلق والخصب والتجديد وحفظ النوع والاستمرار .

[2]  الدين هنا بمعناه الواسع كمؤسسة اجتماعية ومظاهر طقوسية ، ولا يندرج تحت ذلك الديانات السماوية بأي شكل من الاشكال وانما الحديث عام عن ظاهرة التدين لدى الانسان عبر التاريخ.

[3] رحلات العقيلات هي رحلات تجارية عن طريق القوافل يقوم بها أهالي القصيم في زمن ما قبل تأسيس الدولة السعودية الحالية ،  وتجوب القوافل أماكن بعيدة تمتد الى الصين وافغانستان وروسيا شرقاً الى اطراف اوروبا وشمال افريقيا والهند شمالاً وجنوباً .
[4] الفضات والسطوات تعبير دارج عن قيام مجموعة منشقة سياسياً بالتعاون مع جهة خارجية من أجل السطو على المدينة ونهبها وتغيير اميرها والاستيلاء عليها سياسيا واقتصادياً .

[5] الحنشل : قطاع الطرق

[6] التبعيل : زراعة البعل ، وهي زراعة القمح في البر والذي يسقى بماء المطر بدون مؤونة ، فينثر الحب في المكان المناسب ويترك حتى يستوي وينضج ثم يجمع في موسم البعل.

غياب التاريخ الاجتماعي لشبه الجزيرة العربية



غياب التاريخ الاجتماعي لشبه الجزيرة العربية:
مصادر سيرة الملك عبدالعزيز نموذجاً
د. فطمة عبدالله السليم

اختمرت فكرة كتابة موضوع عن طبيعة الحياة الاجتماعية في القرن التاسع عشر من خلال قراءة السيرة الذاتية لحياة الملك عبدالعزيز منذ أشهر عدة ، وحينما حلتْ الذكرى الثمانون لتأسيس المملكة العربية السعودية كانت هذه مناسبة سعيدة أيقظتْ في داخلي رغبة الكتابة عن هذا الموضوع الذي ظلّ لفترة من الزمن يتردد في خاطري كهاجسٍ جميل ، تزورني جمله وتعابيره في لحظات تطول أو تقصر بحسب تقلبات الظروف. وقبل أن أبدأ بكتابة هذا الموضوع ، بحثتُ عن مادة تاريخية موثقة عن سيرة حياة الملك عبدالعزيز كقائد فذّ قلّ أن يجود الزمان بمثله مرة أخرى، حيث عاصر الملك عبدالعزيز الحرب العالمية الاولى ، وشهد اضطرام الصراع بين القوى العظمى في السيطرة على العالم . واستطاع أن يوحد هذا الوطن المترامي في دولة واحدة . وبحثتُ كذلك عن تفاصيل تتناول الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية للفترة التي عايشها جلالة الملك المؤسس في نهايات القرن التاسع عشر. ولقد كان هذا البحثُ نابعاً من معتقد سوسيولوجي أصيل فحواه أن كل قائد عظيم ، وكل مفكر متميز ، وكل مبدع شهده التاريخ عبر عصوره لا بد وأن يكون نتاجاً لبيئةٍ اجتماعية ٍوثقافيةٍ معينة . هذه البيئة الاجتماعية وما احاط بها من ظروف لابد وأن تكون بمثابة الحاضن الملائم الذي احتضن مثل هؤلاء المتميزون ، ولابد أن تكون هذه الظروف هي المنبت الخصب الذي غذى جذور هذه المواهب المتميزة ، حتى إذا ما نضجت هذه الشخصية المتميزة ، وحان الوقت المناسب للفعل ، انطلقت هذه الموهبة تشق طريقها معلنة تغييراً شاملاً يشق وتيرة الحياة التقليدية الجامدة والمتكررة عبر الايام.
ولعلّ من الجدير أن أذكر هنا أن البحث الذي قمتُ به في مكتبة جلمان Gelman Library التابعة لجامعة جورج واشنطن في واشنطن دي سي ، وكذلك البحث في القسم العربي ودراسات الشرق الأوسط في مكتبة الكونجرس قد أثمرا خيبة أمل كبيرة . ففي الحقيقة وجدتُ مادة تاريخية غزيرة قد ُكتبت عن المغفور له جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود ، وجميعها تقريباً قد اقتصرت على سرد يطول أو يقصر للحياة السياسية للملك المؤسس . والغالبية العظمى من هذه الكتب تسير في ترتيب متنها على وتيرة تقليدية شبه ثابته ، فتبدأ بنبذة بسيطة عن ميلاد الملك عبدالعزيز ، وانتقال عائلته وهو صغير إلى قطر ثم البحرين ثم الكويت ، واستقراره مع اسرته في الكويت حتى صار رجلاً في الثامنة والعشرين ، حين استأذن أباه في الخروج إلى الرياض واسترداد ملك آباءه وأجداده. تأتي بعد ذلك بقية الفصول في وصف فتح الرياض والقصيم والحجاز والمنطقة الشرقية والجنوبية ، يتبع ذلك أهم المعاهدات التي أبرمها الملك عبدالعزيز مع القوى العظمى بريطانيا وأمريكا ، والترتيبات الوزارية التي استحدثها في عصره.
وما كنتُ أبحث عنه في الحقيقة هو التاريخ الاجتماعي لشبه الجزيرة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولعل الباحث يُصعق حقيقةً إذ يجدُ أن هناك القليل جداً مما كُتبَ عن طبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في شبه الجزيرة العربية في ذلك الوقت ، وهذه المادة لاتوجد عادة في كتب التاريخ التقليدية التي تتصور الأحداث التاريخية وتعيد سردها وكأنها تقع في فراغ اجتماعي وثقافي واقتصادي لا نهاية له . لقد دَرجت هذه الكتب – منذ زمن ابن خلدون قبل ستمائة عام- حتى الآن على سرد التاريخ السياسي فقط دون التعريج على تفاصيل شديدة الأهمية تتعلق في الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ذات الفعل المؤثر في طبيعة الأحداث التي جرت في عصر من العصور. وكمثال على ذلك ، بحثتُ عن مصادر يمكنها إلقاء الضوء على سيرة الملك عبدالعزيز الانسان ، عن مصادر تتحدثُ مثلاً عن طفولة الملك عبدالعزيز ، عن عدد أخوته وأخواته ، ومن منهم قد عاش معه في نفس البيت ، وعن علاقته بأمه وأبيه ، وعن القائمين بتربيته في سن الصبا واليفاع ، وعن علاقاته بأعمامه وأخواله وأقاربه ، وبأفراد الأسرة المضيفة من آل الصباح في الكويت ، وكذلك عن خبراته الشخصية الخاصة في بيت أسرته الكريمة والتي لاشك وسمت شخصيته بطابع التفرد والقيادة والنبوغ .
 وعلى المستوى الأكثر اتساعاً لا توجد مصادرمفصلة بطريقة علمية تتناول ظروف الحياة الاجتماعية في شبه الجزيرة العربية ما بين القرنين الرابع عشر والتاسع عشر، في المدن والواحات والأطراف والبادية والمناطق الساحلية ، وتتناول حياة الناس اليومية كما عاشوها في ذلك الزمن . هناك شبه غياب لأي تاريخ اجتماعي لحياة الناس في مناطق شاسعة من الجزيرة العربية ، ويشمل ذلك كثيراً من مناطق الاستقرار في المنطقة الجنوبية ، ومناطق شاسعة من الشمال ، وكذلك نمط الحياة البدوية الذي كان سائداً في السواد الأعظم من الرقعة الجغرافية لشبه الجزيرة العربية .
نحن نعرف القليل جداً عن طبيعة الاقتصاد الاكتفائي الذي كان سائداً في تلك الفترة ، ونعرف القليل جداً عن نظم التجارة البينية والمتبادلة والمترحلة في تلك الفترة ، ونعرف القليل جداً عن نظام العبودية في ذلك الزمن من التاريخ ، ونعرف القليل جداً عن نظم الزراعة التي سادت في ذلك الزمن ، كالزراعة المطرية أو البعلية أو الزراعة المعتمدة على العيون ومياه الآبار ومساقط الأمطار والأودية وارتباطها بنظم الملكية وتشريعات التقسيم الوراثي ونظم الاستنفاع بالمصادر الطبيعية التي كانت سائدة في ذلك الوقت ، وقد ظلت في غالبيتها أو جميعها مغيبة عن المعرفة العلمية السائدة اليوم بتفاصيل تشفي الغليل في الوقت الحاضر . أما الجوانب الثقافية ( بالمعنى الانثروبولوجي للثقافة ( Culture  والتي تشير الى طريقة الحياة في مجتمع معين ، والى العادات والتقاليد والاعراف ، والفن ، والمأثور الشفاهي ،  والمعتقدات الدينية ، وطريقة النظر الى العالم ، وترتيبات الحياة اليومية ، والطقوس المتعلقة بدورة الحياة ، وطرق الانتاج الفكري والمادي في ذلك المجتمع فهي أكثر الجوانب غياباً عن التوثيق والدراسة .
هناك نثار متفرق في كتب السيرة الذاتية ، أو كتب الرحلات التي كتبها زائرون أجانب ، أو في كتب الشعر الشعبي أو بعض كتب الأدب على شحها وقلتها ، أو الكتب التي ألفها بعض الهواة تتحدث عن الحج أو عن بعض موانىء المنطقة الشرقية ، أو مدن الحجاز كمكة المكرمة أو المدينة المنورة ، أو عن بعض مدن نجد كعنيزة في القصيم تحتوي بعض هذه الكتب تفاصيل غنية عن الحياة الاجتماعية في تلك الفترة ، ولكنها تظل تفاصيل مغرقة بالمحلية ، ومحصورة في رقعة صغيرة شديدة الضيق إذا ما قورنت بالمجموع الاجمالي لصور الحياة في الجزيرة العربية في ذلك الزمن ، والتي كانت ، على ما أجزم ، شديدة التنوع من الناحية الثقافية ، وواضحة الاختلاف من الناحية الاقتصادية ، وعلى درجة من التقلب وعدم الاستقرار من الناحية السياسية ، وتغوص في غالبيتها في شبه عزلة تامة عن غيرها من التجمعات البشرية ، كل ذلك يجعل الخلوص بصورة علمية عامة مجملة عن صورة الحياة في شبه الجزيرة العربية عملية محفوفة بالسقوط في شرك الرؤى الانطباعية التي تزيح مصداقية المنهج العلمي في الدراسات الاجتماعية جانباً .
ولقد ظل إهمال الجوانب الاجتماعية والثقافية ، وإهمال الجانب الانساني الأوسع في كتب السيرة مستمراً حتى الوقت الحاضر ، رغم التقدم الكبير في المعرفة العلمية ، وانتشار التعليم الرسمي ، وسهولة الحصول على مصادر المعلومات والوثائق التاريخية التي كان من شبه المستحيل الوصول إليها في زمن مضى . فمثلاً مازالت مناهج التعليم الأساسية في مراحل التعليم العام تركز فقط على سرد الأحداث السياسية في حياة الملك عبدالعزيز ، وتتناول بالسرد الممل الأحداث السياسية التي جرت في عملية تأسيس المملكة ، وتغيب من تلك المناهج أي تفاصيل عن طبيعة الحياة الاجتماعية في اواخر القرن التاسع عشر.. 
أما العوامل التي أدت الى الاهمال شبه الكامل لتوثيق الحياة الثقافية والاجتماعية في شبه الجزيرة العربية في فترات ماقبل وصول الحداثة الأوربية (فترة ما بين القرن الرابع عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر) فيمكن تلمسها في عدد من الجوانب :  منها انتشار الامية بشكل شبه كامل بين الغالبية العظمى من سكان شبه الجزيرة العربية فيتلك العصور ، واقتصار التعليم على عدد يسير من ابناء النخب ، واقتصار التعليم في ذاته على التعليم الديني على الطريقة التقليدية القديمة . يضاف إلى ذلك عامل آخر تمثل في شبه العزلة التامة التي عاشتها معظم مجتمعات الجزيرة العربية عن مسار الحداثة الاوربية التي بدأت مشوارها الطويل قبل ستة قرون مضت . يضاف الى ذلك عامل ثالث تمثل في قلة اهتمام الاوربيين في استكشاف شبه الجزيرة العربية وذلك بسبب فقرها – قبل اكتشاف البترول- بالثروات الزراعية او المعدنية التي يمكن أن تجعلها مطمعاً للاستعمار من قبل تلك الدول إبّان حركة الاستعمار الواسعة والتي بدأت في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر وردحاً من القرن العشرين. يضاف الى تلك العوامل كون الغالبية العظمى من اراضي الجزيرة العربية تتكون من صحاري شاسعة ذات مناخ قاس ومتقلب وغير موات للاستقرار والهجرة الجاذبة ، فكانت هذه عوامل طاردة جعلت شبه الجزيرة العربية منطقة نزوح على شكل موجات هجرة بشرية خارجة منذ آماد تاريخية طويلة .
أما في العصر الحديث ، فعزوف الباحثين من المتخصصين في الدراسات الاجتماعية كعلم الاجتماع والانثروبولوجيا والتاريخ والجغرافيا البشرية ودراسات الاقتصاد البشري والعلوم السياسية واللغويات عن البحث الجاد في صور الحياة الاجتماعية لشبه الجزيرة العربية في ذلك الزمن يمكن أن يرجع إلى عوامل متنوعة ، منها أن الغالبية العظمى من الباحثين يختارون الطرق السهلة والمطروقة في البحث ، ويرغبون في مواضيع تكون مادتها الأولية جاهزة وفي متناول اليد ، وقليل منهم من يرغب في انجاز بحث متميز يقدم فائدة علمية عظيمة ، أو يسد ثغرة واسعة في المعرفة العلمية المتعلقة بتاريخ الحياة في شبه الجزيرة العربية .
 يضاف الى هذا العامل عامل ثقافي آخر يتمثل في غياب الفكر الاتصالي في العقلية العربية الحديثة Mentality of continuation  ويمكن تبين ذلك في طريقة النظرإلى الحياة على أنها مراحل ينفصل بعضها عن بعض ، وبأن الزمن والأحداث لا تتمثل في تواصل متواتر من الماضي عبر الحاضر متجهاً نحو المستقبل. ويتبين هذا الخط من التفكير في افتقاد كثير من الباحثين للقناعة الكافية في أهمية البحث في التاريخ القريب للجزيرة العربية ، وفي افتقاد الادراك للحاضر على أنه امتداد طبيعي للماضي ، وبأن المستقبل لا يمكن أن يكون مفهوماً ومدركاً بكفاية مالم يكن متصلاً بالمعرفة الكافية عن الحاضر والماضي في نفس الوقت .
 يضاف إلى هذه العوامل عاملاً آخر ربما يكون في نفس الأهمية ، وهو تأثير المدرسة الأمريكية في تعليم العلوم الاجتماعية وفي مناهج البحث الاجتماعي على الغالبية العظمى من الباحثين الذين تلقوا تدريبهم البحثي الأساسي في الجامعات الأمريكية . وحيث تركز المناهج الامريكية ومايصاحبها من توجهات ايديولوجية على دراسة الحاضر على أنه متصوراً قائماً بذاته ومبتوراً من امتداداته نحو المستقبل أو نحوالماضي . وتتكاثف في المناهج الأمريكية الاهتمامات المبالغ فيها نحو في التكميم Quantitative Research مع ترجيح واضح لاستخدام الاحصاء والدراسات المسحية والمقطعية ، ودراسات الحالات التي تستعصي على التعميم ، مع إقصاء واضح للدراسات التاريخية ودراسات التحليل النوعي Qualitative and Analytical Research للحياة الاجتماعية والثقافية والتي يمكن أن تعطي قيمة معرفية كبرى إذا ما قورنت بالدراسات المسحية أو المقطعية التي تضيىء جانب معين من الحياة الاجتماعية في سياق زمني معين .
يضاف إلى ما سبق ذكره ، عامل آخر متعلق في طبيعة التعليم الجامعي في بلادنا ، فمازالت كثير من الأقسام والتخصصات في العلوم الاجتماعية تعيش في عزلة شبه كاملة عن بقية الاقسام والتخصصات التي تقع تحت نفس مظلة العلوم الاجتماعية . ويستمر التصور التقليدي القديم في هذه الخصصات بوجود فواصل منيعة بين كل تخصص وآخر. ومازالت عملية الاندماج والتقارب – او حتى التداخل- بين كثير من التخصصات في العلوم الاجتماعية ، والتي تشهدها اليوم غالبية التخصصات في العلوم الاجتماعية في اوربا وأمريكا بعيدة التحقق في جامعاتنا هناك . فيتم مثلاً تصور انفصال علم التاريخ انفصالاً تاماً عن علم الاجتماع ، وعن الانثروبولوجيا ، وعلم النفس ، والاقتصاد وهكذا . ويعزز هذا الانفصال كواقع أكاديمي روح المعرفة المنعزلة والمستأصلة من محيطها المعرفي الواسع ، كما يقطع  هذا الانفصال العروق التي تغذي هذه التخصصات وتربطها بشجرة الانسانية التي تضمها معاً في النهاية في أصل واحد .
أما على الصعيد الثقافي العام ، فإن غياب الاهتمام الجاد بدراسة الحياة الاجتماعية لشبه الجزيرة العربية يمكن أن يعزى أيضاً الى عامل ثقافي وافد ، يتمثل في النظرة الدونية ومشاعر الازدراء والاحتقار التي يكنّها كثير من ابناء وبنات الجيل الصاعد من أبناءنا وبناتنا في العصر الحاضر لكل ما يرتبط بالحياة الماضية او بأشكال التراث المادي أو الاجتماعي في الجزيرة العربية . لاشك هذه النظرة الازدرائية كانت نتاجاً مباشراً لعملية الانبهار بالحضارة المادية وأنماط الاستهلاك الرفاهي التي قََدِمِتْ مع منتجات الحداثة التي تشهدها جميع دول العالم في الوقت الحاضر.  إن الانتقال المباشر من نمط معيشي تقليدي إلى نمط اوربي معاصر وجديد بشكل سريع لا شك قد أفضى إلى شبه قطيعة مفاجئة مع الماضي ، وأدى أيضاً الى خلخلة واضحة في معطيات الهوية الثقافية لدى كثير من ابناء الجيل الجديد . ومن هنا يلاحظ بوضوح ليس فقط فقدان الاهتمام بالماضي وفقدان الاعتزاز بمعطياته وثقافته  ، وإنما الاتجاه السريع لجميع معطيات هذا الماضي نحو الانقراض والفناء ، وكأن هذا الماضي كان حلماً قد راود الناس في ليلة صيف عابره ، وكأن هذا الماضي لم يكن واقعاً معاشاً لأجيال عاشت وماتت على مدى قرون متعاقبة على تراب هذا الوطن.
هذا الحديث عن فقدان الاهتمام البحثي والمعرفي وعلى المستوى العام والشعبي بمعارف الحياة الماضية لا يتساوق مع جهود الحكومة الرشيدة في الوقت الحاضر ، والتي بذلت جهوداً جبارة على مختلف الصعد في محاولة تعزيز الاهتمام بالماضي ، فكان مهرجان الجنادرية السنوي مثلاً ، و إنشاء دارة الملك عبدالعزيز ، والجهود الطيبة المبذولة في ترميم الآثار القديمة وحفظها من الاندثار، وكذلك الدعم المادي الجزيل للبحوث التاريخية جميعها كانت محاولات متميزة لجذب الاهتمام بالماضي ، والابقاء بقدر الامكان على شواهده شاخصة في الحاضر والمستقبل .
ينضاف إلى ماسبق حقيقة أن غياب التاريخ الاجتماعي والثقافي لشبه الجزيرة العربية  ، وسيادة مفهوم التاريخ على أنه محصور في التاريخ السياسي للدول ، وبأنه تاريخ أفراد وليس تاريخ جماعات ومجتمعات كل ذلك قد أدى الى تخلف العلوم الاجتماعية في بلادنا ، والتي كان يجب أن تعتمد على المعرفة التراكميّة الواسعة للمجتمع كما كان يعيش في الماضي والتي تعتبر الأساس الصلب الذي ترتكز عليه هذه العلوم في دراستها للحاضر وقرائتها للمستقبل . هذا الغياب المستمر لدراسات التاريخ الاجتماعي قد عزز بشكل كبير حالة الفصام الحضاري التي يشهدها العالم العربي اليوم ، حيث ينفصل الحاضر بشكل شبه كامل عن الماضي ، ويتم تصور الحاضر بكل ما فيه من ظواهر اجتماعية ، وبكل مافيه من مشكلات عالقة على أنه كيان يوجد في اللحظة الآنية للمجتمع دون إدراك الحلقات المتواترة والمتصلة بشكل غير مدرك لهذا الحاضرمع الماضي .
وفي النهاية ، هذا المقال المتواضع هو دعوة قائمة لاعادة الاهتمام بالماضي ، ولتأسيس دراسات للتاريخ الاجتماعي لشبه الجزيرة العربية تتخلص من النظرة التقليدية القديمة منذ زمن ابن خلدون والقائلة بأن التاريخ هو تاريخ أفراد وتاريخ دول . هو دعوة لاعادة الاعتبار إلى الثقافة العربية Arabian Culture  كما كانت شاخصة في القرون الماضية  ، والى محاولة التعرف عن كثب على ستة قرون مظلمة من تاريخ الحياة الانسانية في هذه البقعة الغالية الى قلوبنا . وهي دعوة لاحياء الصلة بالماضي ليس من أجل أن نعيشه مرة أخرى ، ولكن من أجل أن نعيد الصلة بالجذور الحضارية للانسان في هذا الوطن ، ولكي نحتفي أيما احتفاء بالتنوع الثقافي الذي كان سائداً في هذا الوطن الغالي والذي يمكن أن يكون مصدراً للابداع في طرق الحياة كما نتمناها في المستقبل .