غياب التاريخ الاجتماعي لشبه الجزيرة العربية

الجمعة، 26 ديسمبر 2014



غياب التاريخ الاجتماعي لشبه الجزيرة العربية:
مصادر سيرة الملك عبدالعزيز نموذجاً
د. فطمة عبدالله السليم

اختمرت فكرة كتابة موضوع عن طبيعة الحياة الاجتماعية في القرن التاسع عشر من خلال قراءة السيرة الذاتية لحياة الملك عبدالعزيز منذ أشهر عدة ، وحينما حلتْ الذكرى الثمانون لتأسيس المملكة العربية السعودية كانت هذه مناسبة سعيدة أيقظتْ في داخلي رغبة الكتابة عن هذا الموضوع الذي ظلّ لفترة من الزمن يتردد في خاطري كهاجسٍ جميل ، تزورني جمله وتعابيره في لحظات تطول أو تقصر بحسب تقلبات الظروف. وقبل أن أبدأ بكتابة هذا الموضوع ، بحثتُ عن مادة تاريخية موثقة عن سيرة حياة الملك عبدالعزيز كقائد فذّ قلّ أن يجود الزمان بمثله مرة أخرى، حيث عاصر الملك عبدالعزيز الحرب العالمية الاولى ، وشهد اضطرام الصراع بين القوى العظمى في السيطرة على العالم . واستطاع أن يوحد هذا الوطن المترامي في دولة واحدة . وبحثتُ كذلك عن تفاصيل تتناول الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية للفترة التي عايشها جلالة الملك المؤسس في نهايات القرن التاسع عشر. ولقد كان هذا البحثُ نابعاً من معتقد سوسيولوجي أصيل فحواه أن كل قائد عظيم ، وكل مفكر متميز ، وكل مبدع شهده التاريخ عبر عصوره لا بد وأن يكون نتاجاً لبيئةٍ اجتماعية ٍوثقافيةٍ معينة . هذه البيئة الاجتماعية وما احاط بها من ظروف لابد وأن تكون بمثابة الحاضن الملائم الذي احتضن مثل هؤلاء المتميزون ، ولابد أن تكون هذه الظروف هي المنبت الخصب الذي غذى جذور هذه المواهب المتميزة ، حتى إذا ما نضجت هذه الشخصية المتميزة ، وحان الوقت المناسب للفعل ، انطلقت هذه الموهبة تشق طريقها معلنة تغييراً شاملاً يشق وتيرة الحياة التقليدية الجامدة والمتكررة عبر الايام.
ولعلّ من الجدير أن أذكر هنا أن البحث الذي قمتُ به في مكتبة جلمان Gelman Library التابعة لجامعة جورج واشنطن في واشنطن دي سي ، وكذلك البحث في القسم العربي ودراسات الشرق الأوسط في مكتبة الكونجرس قد أثمرا خيبة أمل كبيرة . ففي الحقيقة وجدتُ مادة تاريخية غزيرة قد ُكتبت عن المغفور له جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود ، وجميعها تقريباً قد اقتصرت على سرد يطول أو يقصر للحياة السياسية للملك المؤسس . والغالبية العظمى من هذه الكتب تسير في ترتيب متنها على وتيرة تقليدية شبه ثابته ، فتبدأ بنبذة بسيطة عن ميلاد الملك عبدالعزيز ، وانتقال عائلته وهو صغير إلى قطر ثم البحرين ثم الكويت ، واستقراره مع اسرته في الكويت حتى صار رجلاً في الثامنة والعشرين ، حين استأذن أباه في الخروج إلى الرياض واسترداد ملك آباءه وأجداده. تأتي بعد ذلك بقية الفصول في وصف فتح الرياض والقصيم والحجاز والمنطقة الشرقية والجنوبية ، يتبع ذلك أهم المعاهدات التي أبرمها الملك عبدالعزيز مع القوى العظمى بريطانيا وأمريكا ، والترتيبات الوزارية التي استحدثها في عصره.
وما كنتُ أبحث عنه في الحقيقة هو التاريخ الاجتماعي لشبه الجزيرة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولعل الباحث يُصعق حقيقةً إذ يجدُ أن هناك القليل جداً مما كُتبَ عن طبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في شبه الجزيرة العربية في ذلك الوقت ، وهذه المادة لاتوجد عادة في كتب التاريخ التقليدية التي تتصور الأحداث التاريخية وتعيد سردها وكأنها تقع في فراغ اجتماعي وثقافي واقتصادي لا نهاية له . لقد دَرجت هذه الكتب – منذ زمن ابن خلدون قبل ستمائة عام- حتى الآن على سرد التاريخ السياسي فقط دون التعريج على تفاصيل شديدة الأهمية تتعلق في الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ذات الفعل المؤثر في طبيعة الأحداث التي جرت في عصر من العصور. وكمثال على ذلك ، بحثتُ عن مصادر يمكنها إلقاء الضوء على سيرة الملك عبدالعزيز الانسان ، عن مصادر تتحدثُ مثلاً عن طفولة الملك عبدالعزيز ، عن عدد أخوته وأخواته ، ومن منهم قد عاش معه في نفس البيت ، وعن علاقته بأمه وأبيه ، وعن القائمين بتربيته في سن الصبا واليفاع ، وعن علاقاته بأعمامه وأخواله وأقاربه ، وبأفراد الأسرة المضيفة من آل الصباح في الكويت ، وكذلك عن خبراته الشخصية الخاصة في بيت أسرته الكريمة والتي لاشك وسمت شخصيته بطابع التفرد والقيادة والنبوغ .
 وعلى المستوى الأكثر اتساعاً لا توجد مصادرمفصلة بطريقة علمية تتناول ظروف الحياة الاجتماعية في شبه الجزيرة العربية ما بين القرنين الرابع عشر والتاسع عشر، في المدن والواحات والأطراف والبادية والمناطق الساحلية ، وتتناول حياة الناس اليومية كما عاشوها في ذلك الزمن . هناك شبه غياب لأي تاريخ اجتماعي لحياة الناس في مناطق شاسعة من الجزيرة العربية ، ويشمل ذلك كثيراً من مناطق الاستقرار في المنطقة الجنوبية ، ومناطق شاسعة من الشمال ، وكذلك نمط الحياة البدوية الذي كان سائداً في السواد الأعظم من الرقعة الجغرافية لشبه الجزيرة العربية .
نحن نعرف القليل جداً عن طبيعة الاقتصاد الاكتفائي الذي كان سائداً في تلك الفترة ، ونعرف القليل جداً عن نظم التجارة البينية والمتبادلة والمترحلة في تلك الفترة ، ونعرف القليل جداً عن نظام العبودية في ذلك الزمن من التاريخ ، ونعرف القليل جداً عن نظم الزراعة التي سادت في ذلك الزمن ، كالزراعة المطرية أو البعلية أو الزراعة المعتمدة على العيون ومياه الآبار ومساقط الأمطار والأودية وارتباطها بنظم الملكية وتشريعات التقسيم الوراثي ونظم الاستنفاع بالمصادر الطبيعية التي كانت سائدة في ذلك الوقت ، وقد ظلت في غالبيتها أو جميعها مغيبة عن المعرفة العلمية السائدة اليوم بتفاصيل تشفي الغليل في الوقت الحاضر . أما الجوانب الثقافية ( بالمعنى الانثروبولوجي للثقافة ( Culture  والتي تشير الى طريقة الحياة في مجتمع معين ، والى العادات والتقاليد والاعراف ، والفن ، والمأثور الشفاهي ،  والمعتقدات الدينية ، وطريقة النظر الى العالم ، وترتيبات الحياة اليومية ، والطقوس المتعلقة بدورة الحياة ، وطرق الانتاج الفكري والمادي في ذلك المجتمع فهي أكثر الجوانب غياباً عن التوثيق والدراسة .
هناك نثار متفرق في كتب السيرة الذاتية ، أو كتب الرحلات التي كتبها زائرون أجانب ، أو في كتب الشعر الشعبي أو بعض كتب الأدب على شحها وقلتها ، أو الكتب التي ألفها بعض الهواة تتحدث عن الحج أو عن بعض موانىء المنطقة الشرقية ، أو مدن الحجاز كمكة المكرمة أو المدينة المنورة ، أو عن بعض مدن نجد كعنيزة في القصيم تحتوي بعض هذه الكتب تفاصيل غنية عن الحياة الاجتماعية في تلك الفترة ، ولكنها تظل تفاصيل مغرقة بالمحلية ، ومحصورة في رقعة صغيرة شديدة الضيق إذا ما قورنت بالمجموع الاجمالي لصور الحياة في الجزيرة العربية في ذلك الزمن ، والتي كانت ، على ما أجزم ، شديدة التنوع من الناحية الثقافية ، وواضحة الاختلاف من الناحية الاقتصادية ، وعلى درجة من التقلب وعدم الاستقرار من الناحية السياسية ، وتغوص في غالبيتها في شبه عزلة تامة عن غيرها من التجمعات البشرية ، كل ذلك يجعل الخلوص بصورة علمية عامة مجملة عن صورة الحياة في شبه الجزيرة العربية عملية محفوفة بالسقوط في شرك الرؤى الانطباعية التي تزيح مصداقية المنهج العلمي في الدراسات الاجتماعية جانباً .
ولقد ظل إهمال الجوانب الاجتماعية والثقافية ، وإهمال الجانب الانساني الأوسع في كتب السيرة مستمراً حتى الوقت الحاضر ، رغم التقدم الكبير في المعرفة العلمية ، وانتشار التعليم الرسمي ، وسهولة الحصول على مصادر المعلومات والوثائق التاريخية التي كان من شبه المستحيل الوصول إليها في زمن مضى . فمثلاً مازالت مناهج التعليم الأساسية في مراحل التعليم العام تركز فقط على سرد الأحداث السياسية في حياة الملك عبدالعزيز ، وتتناول بالسرد الممل الأحداث السياسية التي جرت في عملية تأسيس المملكة ، وتغيب من تلك المناهج أي تفاصيل عن طبيعة الحياة الاجتماعية في اواخر القرن التاسع عشر.. 
أما العوامل التي أدت الى الاهمال شبه الكامل لتوثيق الحياة الثقافية والاجتماعية في شبه الجزيرة العربية في فترات ماقبل وصول الحداثة الأوربية (فترة ما بين القرن الرابع عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر) فيمكن تلمسها في عدد من الجوانب :  منها انتشار الامية بشكل شبه كامل بين الغالبية العظمى من سكان شبه الجزيرة العربية فيتلك العصور ، واقتصار التعليم على عدد يسير من ابناء النخب ، واقتصار التعليم في ذاته على التعليم الديني على الطريقة التقليدية القديمة . يضاف إلى ذلك عامل آخر تمثل في شبه العزلة التامة التي عاشتها معظم مجتمعات الجزيرة العربية عن مسار الحداثة الاوربية التي بدأت مشوارها الطويل قبل ستة قرون مضت . يضاف الى ذلك عامل ثالث تمثل في قلة اهتمام الاوربيين في استكشاف شبه الجزيرة العربية وذلك بسبب فقرها – قبل اكتشاف البترول- بالثروات الزراعية او المعدنية التي يمكن أن تجعلها مطمعاً للاستعمار من قبل تلك الدول إبّان حركة الاستعمار الواسعة والتي بدأت في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر وردحاً من القرن العشرين. يضاف الى تلك العوامل كون الغالبية العظمى من اراضي الجزيرة العربية تتكون من صحاري شاسعة ذات مناخ قاس ومتقلب وغير موات للاستقرار والهجرة الجاذبة ، فكانت هذه عوامل طاردة جعلت شبه الجزيرة العربية منطقة نزوح على شكل موجات هجرة بشرية خارجة منذ آماد تاريخية طويلة .
أما في العصر الحديث ، فعزوف الباحثين من المتخصصين في الدراسات الاجتماعية كعلم الاجتماع والانثروبولوجيا والتاريخ والجغرافيا البشرية ودراسات الاقتصاد البشري والعلوم السياسية واللغويات عن البحث الجاد في صور الحياة الاجتماعية لشبه الجزيرة العربية في ذلك الزمن يمكن أن يرجع إلى عوامل متنوعة ، منها أن الغالبية العظمى من الباحثين يختارون الطرق السهلة والمطروقة في البحث ، ويرغبون في مواضيع تكون مادتها الأولية جاهزة وفي متناول اليد ، وقليل منهم من يرغب في انجاز بحث متميز يقدم فائدة علمية عظيمة ، أو يسد ثغرة واسعة في المعرفة العلمية المتعلقة بتاريخ الحياة في شبه الجزيرة العربية .
 يضاف الى هذا العامل عامل ثقافي آخر يتمثل في غياب الفكر الاتصالي في العقلية العربية الحديثة Mentality of continuation  ويمكن تبين ذلك في طريقة النظرإلى الحياة على أنها مراحل ينفصل بعضها عن بعض ، وبأن الزمن والأحداث لا تتمثل في تواصل متواتر من الماضي عبر الحاضر متجهاً نحو المستقبل. ويتبين هذا الخط من التفكير في افتقاد كثير من الباحثين للقناعة الكافية في أهمية البحث في التاريخ القريب للجزيرة العربية ، وفي افتقاد الادراك للحاضر على أنه امتداد طبيعي للماضي ، وبأن المستقبل لا يمكن أن يكون مفهوماً ومدركاً بكفاية مالم يكن متصلاً بالمعرفة الكافية عن الحاضر والماضي في نفس الوقت .
 يضاف إلى هذه العوامل عاملاً آخر ربما يكون في نفس الأهمية ، وهو تأثير المدرسة الأمريكية في تعليم العلوم الاجتماعية وفي مناهج البحث الاجتماعي على الغالبية العظمى من الباحثين الذين تلقوا تدريبهم البحثي الأساسي في الجامعات الأمريكية . وحيث تركز المناهج الامريكية ومايصاحبها من توجهات ايديولوجية على دراسة الحاضر على أنه متصوراً قائماً بذاته ومبتوراً من امتداداته نحو المستقبل أو نحوالماضي . وتتكاثف في المناهج الأمريكية الاهتمامات المبالغ فيها نحو في التكميم Quantitative Research مع ترجيح واضح لاستخدام الاحصاء والدراسات المسحية والمقطعية ، ودراسات الحالات التي تستعصي على التعميم ، مع إقصاء واضح للدراسات التاريخية ودراسات التحليل النوعي Qualitative and Analytical Research للحياة الاجتماعية والثقافية والتي يمكن أن تعطي قيمة معرفية كبرى إذا ما قورنت بالدراسات المسحية أو المقطعية التي تضيىء جانب معين من الحياة الاجتماعية في سياق زمني معين .
يضاف إلى ما سبق ذكره ، عامل آخر متعلق في طبيعة التعليم الجامعي في بلادنا ، فمازالت كثير من الأقسام والتخصصات في العلوم الاجتماعية تعيش في عزلة شبه كاملة عن بقية الاقسام والتخصصات التي تقع تحت نفس مظلة العلوم الاجتماعية . ويستمر التصور التقليدي القديم في هذه الخصصات بوجود فواصل منيعة بين كل تخصص وآخر. ومازالت عملية الاندماج والتقارب – او حتى التداخل- بين كثير من التخصصات في العلوم الاجتماعية ، والتي تشهدها اليوم غالبية التخصصات في العلوم الاجتماعية في اوربا وأمريكا بعيدة التحقق في جامعاتنا هناك . فيتم مثلاً تصور انفصال علم التاريخ انفصالاً تاماً عن علم الاجتماع ، وعن الانثروبولوجيا ، وعلم النفس ، والاقتصاد وهكذا . ويعزز هذا الانفصال كواقع أكاديمي روح المعرفة المنعزلة والمستأصلة من محيطها المعرفي الواسع ، كما يقطع  هذا الانفصال العروق التي تغذي هذه التخصصات وتربطها بشجرة الانسانية التي تضمها معاً في النهاية في أصل واحد .
أما على الصعيد الثقافي العام ، فإن غياب الاهتمام الجاد بدراسة الحياة الاجتماعية لشبه الجزيرة العربية يمكن أن يعزى أيضاً الى عامل ثقافي وافد ، يتمثل في النظرة الدونية ومشاعر الازدراء والاحتقار التي يكنّها كثير من ابناء وبنات الجيل الصاعد من أبناءنا وبناتنا في العصر الحاضر لكل ما يرتبط بالحياة الماضية او بأشكال التراث المادي أو الاجتماعي في الجزيرة العربية . لاشك هذه النظرة الازدرائية كانت نتاجاً مباشراً لعملية الانبهار بالحضارة المادية وأنماط الاستهلاك الرفاهي التي قََدِمِتْ مع منتجات الحداثة التي تشهدها جميع دول العالم في الوقت الحاضر.  إن الانتقال المباشر من نمط معيشي تقليدي إلى نمط اوربي معاصر وجديد بشكل سريع لا شك قد أفضى إلى شبه قطيعة مفاجئة مع الماضي ، وأدى أيضاً الى خلخلة واضحة في معطيات الهوية الثقافية لدى كثير من ابناء الجيل الجديد . ومن هنا يلاحظ بوضوح ليس فقط فقدان الاهتمام بالماضي وفقدان الاعتزاز بمعطياته وثقافته  ، وإنما الاتجاه السريع لجميع معطيات هذا الماضي نحو الانقراض والفناء ، وكأن هذا الماضي كان حلماً قد راود الناس في ليلة صيف عابره ، وكأن هذا الماضي لم يكن واقعاً معاشاً لأجيال عاشت وماتت على مدى قرون متعاقبة على تراب هذا الوطن.
هذا الحديث عن فقدان الاهتمام البحثي والمعرفي وعلى المستوى العام والشعبي بمعارف الحياة الماضية لا يتساوق مع جهود الحكومة الرشيدة في الوقت الحاضر ، والتي بذلت جهوداً جبارة على مختلف الصعد في محاولة تعزيز الاهتمام بالماضي ، فكان مهرجان الجنادرية السنوي مثلاً ، و إنشاء دارة الملك عبدالعزيز ، والجهود الطيبة المبذولة في ترميم الآثار القديمة وحفظها من الاندثار، وكذلك الدعم المادي الجزيل للبحوث التاريخية جميعها كانت محاولات متميزة لجذب الاهتمام بالماضي ، والابقاء بقدر الامكان على شواهده شاخصة في الحاضر والمستقبل .
ينضاف إلى ماسبق حقيقة أن غياب التاريخ الاجتماعي والثقافي لشبه الجزيرة العربية  ، وسيادة مفهوم التاريخ على أنه محصور في التاريخ السياسي للدول ، وبأنه تاريخ أفراد وليس تاريخ جماعات ومجتمعات كل ذلك قد أدى الى تخلف العلوم الاجتماعية في بلادنا ، والتي كان يجب أن تعتمد على المعرفة التراكميّة الواسعة للمجتمع كما كان يعيش في الماضي والتي تعتبر الأساس الصلب الذي ترتكز عليه هذه العلوم في دراستها للحاضر وقرائتها للمستقبل . هذا الغياب المستمر لدراسات التاريخ الاجتماعي قد عزز بشكل كبير حالة الفصام الحضاري التي يشهدها العالم العربي اليوم ، حيث ينفصل الحاضر بشكل شبه كامل عن الماضي ، ويتم تصور الحاضر بكل ما فيه من ظواهر اجتماعية ، وبكل مافيه من مشكلات عالقة على أنه كيان يوجد في اللحظة الآنية للمجتمع دون إدراك الحلقات المتواترة والمتصلة بشكل غير مدرك لهذا الحاضرمع الماضي .
وفي النهاية ، هذا المقال المتواضع هو دعوة قائمة لاعادة الاهتمام بالماضي ، ولتأسيس دراسات للتاريخ الاجتماعي لشبه الجزيرة العربية تتخلص من النظرة التقليدية القديمة منذ زمن ابن خلدون والقائلة بأن التاريخ هو تاريخ أفراد وتاريخ دول . هو دعوة لاعادة الاعتبار إلى الثقافة العربية Arabian Culture  كما كانت شاخصة في القرون الماضية  ، والى محاولة التعرف عن كثب على ستة قرون مظلمة من تاريخ الحياة الانسانية في هذه البقعة الغالية الى قلوبنا . وهي دعوة لاحياء الصلة بالماضي ليس من أجل أن نعيشه مرة أخرى ، ولكن من أجل أن نعيد الصلة بالجذور الحضارية للانسان في هذا الوطن ، ولكي نحتفي أيما احتفاء بالتنوع الثقافي الذي كان سائداً في هذا الوطن الغالي والذي يمكن أن يكون مصدراً للابداع في طرق الحياة كما نتمناها في المستقبل .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق