بسم الله الرحمن الرحيم
الواسطة: مالها وما
عليها
قراءة في سوسيولوجيا
الأبنية البيروقراطية في العالم الثالث
د. فاطمة بنت عبدالله
السليم
يحار المرء في إيجاد تعريف جامع مانع
للمعاني التي تتضمنها كلمة "واسطة" ، ولكن من المؤكد أن هذا المصطلح قد نشأ ضمن الثقافة الشعبية في
المجتمعات التقليدية ، والذي أقترح تعريفه كالتالي : جميع الطرق والوسائل التي
يستخدمها الأفراد والجماعات في التأثير والضغط على مقررات نظامية معينه ، من أجل
تغييرها ، أو تعديلها أو تسريعها أو تفسيرها أو تجاوزها أو إسقاط تطبيقها في سبيل
تحقيق مصلحة ذاتية آنية لفرد معين لا يمكّنه النظام من تحقيقها بالطريقة التي
تتطابق مع رغبته ومصالحة".
والحقيقة أن تاريخ الفكر السوسيولوجي يحفل
بالكثير من التنظيرات والتراث الفكري الذي اشتغل منذ بداية القرن التاسع عشر
بمسألة المزاوجة بين الحداثة والثقافة التقليدية في أوربا وخارجها ، وقد ُشغل كثير
من المفكرين وعلماء الإجتماع بالكيفيات التي يستخدمها الأفراد والجماعات في
التطابق أو الانعزال أو التمويه او التعديل على الأنظمة المختلفه ، وكذلك
بالكيفيات التي تستطيع فيها مجتمعات معينة تعزيز سلطة النظام وتعديل أشكال القصور
في تطبيقاته في سبيل الحد من المنافذ المختلفة التي تستخدمها الجماعات المختلفه في
النفاذ إلى النظام والتأثير فيه او تجاوزه.
ومن الجدير بالذكر أن جميع المجتمعات التقليدية
التي وجدت قبل زمن الحداثة ، وكذلك في المجتمعات التي ظلت إلى حد كبير معزولة عن
تأثير الحداثة الأوربية المعاصرة قد حافظت على أبنية تقليدية للقوة ، يتم عن
طريقها التأثير المباشر على قرارات المجتمع والأفراد بالطرق التقليدية ضمن منظومة
من التراتبية الإجتماعية التي توزع القوة ومراكز النفوذ بحسب اعتبارات اجتماعية
متفق عليها تقليدياً ، فتحتل الجماعات مكانات تختلف علواً أو نزولا بحسب ما تملكه
هذه الجماعات من " رأسمال اجتماعي " يتم تناقله وراثياً وليس عن طريق
الإكتساب ،ويتحدد في الغالب ضمن اعتبارات بيولوجية تتمثل في العرق واللون والجنس (
ذكور) والعمروالإنتماء الأثني ، يضاف إليها بعض الاعتبارات الأجتماعية الأخرى
كالمال والثراء والإنتماء الجغرافي والأدوار التاريخية والوراثة الاجتماعية
للأدوار القيادية في المجتمع .
أما المجتمعات الحديثة فمع دخول الحداثة
ألأوربية تم انتقال هذه المجتمعات وتحولها
من مجتمعات تقليدية تعتمد على التشكيل الوراثي للسلطة وتوزيع مناطق النفوذ تبعاً
لذلك إلى دول تعتمد على سلطة القانون وتعتمد على نظم صارمة لتطبيق القوانين
والأنظمة ، وقد رافق هذا نمو متسارع للنظم والقوانين التي حلت محل الطرق التقليدية
في انجاز الأعمال وفي تحقيق الأهداف . وكان من نتاج الكفاح الطويل الذي خاضته تلك
المجتمعات في ارساء القوانين وتطبيقها أن نشأت ثقافة اجتماعية تكونت من مجموعة من القيم والمبادىء العامة
والخاصة والتي عاضدت بشكل كبير هذه القوانين وسارت جنباً إلى جنب مع هذا النمو
المتعاظم للنظم والقوانين . ومن أهم ما أكدت عليه هذه الثقافة المعاضدة لنمو النظم
التأكيد على منظومة من القيم الإجتماعية ، كان أهمها إعلاء قيمة الانسان كقيمة
مطلقة تتمثل في التقدير الرفيع لذكائه ومهاراته وقدراته الذاتية وخبراته التي تعتبر معايير أساسية في توزيع
المناصب الإدارية والقيادية في المجتمع ، بمعزل عن خلفياته الإجتماعية أو
البيولوجية الموروثة . وكذلك التأكيد على قيم العدل الإجتماعي والمساواة
الإجتماعية ، والتأكيد المطلق على قيمة تكافؤ الفرص بين الأفراد والجماعات في
الحقوق والواجبات والخدمات ، ومن هنا شهدت المجتمعات الأوربية تحولات عظمى في
أبنيتها الإجتماعية ، تضمنت نمواً ورسوخاً في الممارسات الديموقراطية الحديثة التي
اعتبرت بجوهرها عبارة عن آليات يستطيع المجتمع عن طريقها تحقيق العدل والمساواة ،
ومن الإفادة من ثمرات النظام في تحقيق التوزيع العادل للخدمات الإجتماعية التي هي
حق مطلق للجميع في ظل النظام والقانون .
ومن الملاحظ في الوقت الحاضر أن معظم الدول
الأوربية ودول أمريكا الشمالية واليابان هي دول تحولت بشكل شبه كلي نحو المنظومة
الحديثة للحياة ، وأصبح التنظيم
البيروقراطي التراتبي والذي ينظم سريان المعاملات الخدمية في قنوات نظامية محددة هو
النظام الأمثل الذي يضمن إنجاز المعاملات وتقديم الخدمات المتعلقة بها في أسرع وقت
وأقل جهد . ولاشك بأن غالبية هذه المجتمعات قد بذلت جهوداً جبارة في سبيل التحسين
المتواصل لطرق إنجاز العمل وفي إرساء ثقافة النظام الذي يضعه الجميع من أجل خدمة
الجميع . أما غالبية دول العالم في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية فمازالت تكابد
أشكال الصراع والموائمة بين النظام الذي أدخلته الحداثة الأوربية وبين الطرق
التقليدية لتوزيع الخدمات و المصالح وتأثيرمراكز القوى في المجتمع عليها . وتعاني
هذه المجتمعات مما أسماه عالم الإجتماع الألماني يورجين هابرماس مغالبة "عالم
الحياة" أو الثقافة التقليدية
"لعالم النظام" المتمثل في الطرق البيروقراطية المختلفة لإنجاز
الأعمال وتوزيع الخدمات .
وما يحدث في غالبية مجتمعات العالم الثالث
هو غلبة الثقافة التقليدية بما فيها من توزيع وراثي لمراكز القوة والنفوذ
الإجتماعي على عالم النظام والقوانين . ففي حين تتمازج أشكال الحياة الحديثة
وتنظيماتها البيروقراطية المقامة على غرار ما هو موجود في المجتمعات الحديثة والتي
أصبحت أطراً بيروقراطية لا يمكن الرجوع عنها او استبدالها في إنجاز الأعمال تتمازج
هذه مع الأطر الفكرية القديمة ومع المفاهيم التقليدية للحقوق والواجبات ، وكانت
النتيجة الحتمية التي تترتب على هذا التمازج هو وجود ثقافتين متعارضتين في المحتوى
القيمي والمضمون . ففي حين أنه في المجتمعات الصناعية المتقدمة تتساوق الثقافة
الإجتماعية مع ما تم إرساؤه من نظم وقوانين
بحيث تخدم وتعاضد القيم الإجتماعية السائدة عالم القوانين والنظام ، فإن ما
يحدث في دول العالم الثالث هو وجود ثقافتين متعارضتين ، الأولى: ثقافة
معلنة تؤكد على أهمية القوانين واحترام الأنظمة ويتم الإعلان عنها في وسائل
الاعلام والمدارس والمرافق العامة ، والثانية: ثقافة "تحت-أرضية"
تتضمن الإيمان المطلق بوجود إمكانيات غير محدودة في التدخل في النظام في تغييره أو
تحويره أو تجاوزه أو تطويعه ليخدم أغراضاً لا يصب النظام في خدمتها في أغلب
الحالات. هذه الثقافة التحت-أرضية هي ثقافة الواسطة ، بمعنى أن هذه
القوانين والنظم مهما بلغت من الثبات والقدم ، هناك إمكانية لاستخدام القوة
التقليدية التي تستطيع بحسب ما اوتيت من قوة ونفوذ أن تغير هذه الأنظمة وتتجاوزها
.
هل الواسطة ظاهرة
إيجابية أم سلبية ؟
من منظور سوسيولوجي بحت لواقع وجود الواسطة
في مجتمع معين ، فإن الواسطة تعتبر على الدوام ظاهرة سلبية وليست إيجابية ، إذ أن
شيوع ثقافة الواسطة في مجتمع ما يعبر عن خلل في الأبنية الثقافية والبيروقراطية في
هذه المجتمعات ، ويمكن القول بثقة بأن الواسطة تعتبر الشكل الأوضح لعجز القوانين ،
أو ضعف النظام ، كما تعتبر دلالة على تفشي نوع من أنواع الفساد الإداري
أوالإجتماعي . كما تقف الواسطة كنقيض لقيم
العدالة الإجتماعية ، وتتعارض بشكل أساسي مع قيم المساواة التي يجب أن تُضمن
للجميع في الحصول على الخدمات كحق من حقوق المواطنة والعيش في مجتمع واحد .
وحين النظر إلى الظروف التي تستخدم فيها الواسطة ، فإن الواسطة لا تعبٌر عن
شكل واحد من أشكال التأثير في القوانين والنظم . فالواسطة تستخدم أحياناً في تسريع
معاملة من المعاملات بحيث يمكن إنجازها في وقت أقصر من الوقت المعتاد ، ففي هذه
الحالة تعتبر الواسطة تعبيراً عن قصور النظام في إنجاز الخدمات بوقت قصير، وفي
حالات أخرى يمكن اعتبار الواسطة أكثر أشكال الفساد الإجتماعي نخراً في البنية
الحقوقية في المجتمع وذلك في الحالات التي يترتب على استخدام الواسطة إعطاء شخص
معين حقوقاً أو امتيازات لا يستحقها ، أو منحه خدمات مميزة لمجرد أن لديه واسطة ،
أو يترتب على استخدام الواسطة حرمان أشخاص وجماعات من التمتع بنفس الحقوق التي
تمنحها الواسطة كامتياز لذوي النفوذ في المجتمع . ولاشك أن شيوع الواسطة بهذه
الطريقة لا بد وان يترتب عليه شعور غامر بالظلم والنقمة من قبل الفئات التي لا تجد
قنوات توصلها إلى نفس الإمتيازات ، كما أن الواسطة تعمق الفوارق الطبقية بين الناس
، وتخلق صراعاً خفياً بين الجماعات التي تتمتع بامتيازات وتلك التي تفتقر لهذه
الامتيازات خاصة وأنه لا يوجد مسوغات حقوقية أو عقلانية تقوم عليها هذه الفوارق .
وفي بعض الحالات ، تستخدم الواسطة لتجاوزبعض او كل مقررات النظام أوللهروب
من متطلبات يتطلبها تطبيق النظام في الحالات العادية ، وهنا تعتبر الواسطة نوعاً
صارخا من أنواع الفساد الإجتماعي ، حيث يكون هناك أفضليات تعطي الحق لبعض الفئآت
بتجاوز النظام بينما يطبق النظام بجميع مقرراته على اولئك الذين لا يجدون من القوى
الإجتماعية أو مراكز النفوذ ما يساندهم . والعواقب الوخيمة للواسطة قد تتجاوز
أشكال الضرر الآني حتى ليمتد تأثيرها السلبي إلى مفاصل أخرى من بنية المجتمع .
فحين تستخدم الواسطة مثلاً من أجل تعيين أفراد في مناصب أو مراكز قيادية ليس لديهم
من الخبرة والكفاءة الذاتية ما يمكنهم من ممارسة متطلبات هذه المراكز او المناصب ،
فإن الضرر الإجتماعي يكون أكبر مما يمكن تقديره . حيث يرجع القصور والتخبط وسوء
الآداء في كثير من التنظيمات البيروقراطية في العالم الثالث إلى النقص الكبير في
كفاءة القيادات الإدارية ، والتي يتم تعيينها واستمرارها في العمل لسنوات طويلة
باستخدام الواسطة ، وتحت ضغط متواصل من مراكز النفوذ خارج المؤسسة البيروقراطية
نفسها. وعلى ذلك تعتبر الواسطة نظاماً يتعارض تماماً مع مقررات العدالة الإجتماعية
والمساواة وتكافؤ الفرص وقيم الإعلاء من قيمة الإنسان كفرد تتحدد قيمته بما لديه
من كفاءات أو مهارات أو خبرات وليس بما يستطيع أن يستخدمه من تأثير مستمد في غالب
الأحيان من مراكز النفوذ والقوة .
وفي الختام أود الرجوع إلى درس من دروس التاريخ الإسلامي المجيد ، حيث كان
الرفض الحازم الصارم للواسطة أحد أسس العدل والمساواة بين الناس . ولعل القوة التي
قامت عليها الدولة الإسلامية في صدر الإسلام
وفي أوج مجدها كانت تُستمد من الحزم في تطبيق الشريعة والمساواة بين الناس
، ولنا في سيرة حبيبنا المصطفى رسول الله (ص) عبرة وعظة ، إذ رفض الرسول صلى الله عليه
وسلم رفضاً قاطعاً توسط إسامة بن زيد في إسقاط حد من حدود الله عن المرأة
المخزومية ذات الشرف الرفيع حينما سرقت ، واعتبر الرسول الكريم استخدام الواسطة في
تجاوز النظام والحدود سبباً في هلاك المجتمعات ، وقد ورد في السيرة المشرفة هذا
الحديث :
عن عائشة رضي الله
عنها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا : من يُكلٌم فيها رسول
الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا : ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله
صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
أتشفع في حد من حدود الله ؟ " ثم قام فاختطب ثم قال : " إنما أهلك الذين
قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه
الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " . متفق عليه .
اوتوا / كندا ، 2009
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق