حين تخضرّ
الروح
د. فاطمة بنت عبدالله السليم [1]

زار المخرج العالمي ستانلي كوبريك Stanley Kubrick المملكة العربية السعودية في الثمانينيات من القرن الماضي ، والمخرج العالمي مشهور بإخراجه المبدع لأفلام
الخيال العلمي ، وعندما سُئل في مقابلة تلفزيونية عن انطباعه عن المملكة قال:
" إذا زرتَ المملكة فكأنك تزور كوكب آخر" . هذه الكلمات التي قالها
المخرج العالمي تختصر في بضع كلمات شعور من زار المملكة لعدة اسابيع أو أشهر ، حيث
الحياة في المملكة مختلفة أشد الاختلاف عنها في أمريكا أو كندا أو في البلدان
العربية أو أي مكان آخر في العالم . حين تحط بك قدماك في مطار الرياض ، وتخرج من
أروقة قاعات الوصول الفخمة الى مكان
انتظار سيارات الأجرة خارج المطار ستبدأ من تلك اللحظة تدرك بأن قدميك قد وطأتا
أرض كوكب آخر . ليست هي حرارة الهواء
وجفافه في فصل الصيف ، ولا بكاء رجال جاوزوا سن الكهولة تهطل على وجناتهم دموع
الفرح بلقاء أحبائهم الذين قدموا من بلاد بعيدة ، ولا فوضى الناس الذين تجمعوا حول
سيارة أجرة واحدة يفاوضون سائقها حول تسعيرة التوصيل ، ولكنه ذلك الشعور الدافىء
الحميم الذي يتملكك رغماً عنك ، ويبدأ
بالتسلل عبر انفاسك الحرى عابراً رئتيك ، ليصل الى أعماق روحك المتيبسة ، لتبدأ جذور الحياة تورق براعماً
خضراء تستقي من رطوبة الشوق ، ومن نضح الحنين إلى عناق الأماكن التي ألفتها ، وإلى
لقاء الأحبة الذين باعدتهم عنك ظروف الحياة وترحال لقمة العيش حتى صار
الفراق دهوراً وأزمانا .
تمخرُ بك السيارة شوارع الرياض ناهبة بك
المسافة بين المطار وبيتك ، قتقلَّبُ
بصركَ يُمنة ويُسرة ، ولا تصدق عينيك أن هذه هي نفس المدينة التي غادرتها قبل ثلاث
سنوات . كثير من معالمها قد تغيرت ، وجهها قد انتقش بعدد من ناطحات السحاب ، عمائر
جديدة ، ومجمعات سكنية ضخمة هنا وهناك ،
وأسواق جديدة تتناثر في كل صوب . نعم هذه هي الرياض ، رغم كل ما يقال عن صخبها
الذي لا يهدأ في ليلٍ أو نهار ، ورغم فوضى شوارعها وسياراتها التي لا تعترف بنهجٍ
أونظام ، ورغم زحام آلافٍ مؤلفة من البشر
من مختلف الأجناس والأعراق يأتون اليها من
كل اصقاع العالم ، الا أنها مدينةٌ للحياة فيها مذاق آخر ، وللاقامة فيها ولو
شهوراً أو اسابيع طعم لا تجده في أي مكان سواها . الرياض ُمدينة تَخْضَرُّ فيها
الروح ، وتنبت فيها المشاعر رياضاً من إلفة ٍومحبةٍ وتسامح ورضى ، لتظلك بظلال ٍ وارفةٍ تقيكَ من حرٍّ الغربة ، ولتجعل من هذه المدينة بيتكَ الآمن الدافىء الذي
تعود إليه بعد طول غياب وافتراق .
حين تخطو خطواتك الأولى خارج المطار فأنت
تبدأ رحلة في مكان جديد ، وفي زمن جديد ، ليس غريباً أن تنسى أنَّ ما يفصلك عن
عالمك القديم الذي جئت منه نصف يوم فقط ، ولكنك تكون مغموراً بشعور غريب ودَفّاق ،
كأنكَ قد ولدتَ تواً من رحم ثقب أسود Black Hole ، وصار لك في التوٍّ ذاكرة
جديدة ، وصرت ترى الأشياء بعينك الروحية لا بعينك البصرية ، كُلُّ مَنْ ومَا يحيط
بك من إناسٍ وأشياء تشكل عالماً شديد الألفة إليك وغريب عنك في الوقت ذاته .
مدينة الرياض مدينة ضخمة بكل المقاييس ، كبيرة
في مساحاتها الشاسعة ، وأحيائها المترامية ، وتضم أكثر من سبعةملايين نسمة يشكلون ثلث
سكان المملكة . والرياض في طرازها المعماري المتفاوت أشد التفاوت هي مثال حي لمدن
الحداثة الراكضة بجنون نحو المستقبل ، حيث تقفز مسافات واسعة متجاوزةً الحاضر
والماضي معاً . ولعلها بسبب هذا الركض اللاهث نسيت أن تطبع هويتها العربية الخاصة على طُرُزها المعمارية
المستوردة من كل حدب وصوب ، كما نَضَتْ لسانها العربي الأصيل فاختلط لسانها الناطق
والمكتوب بعجمة الحرف الأجنبي الوافد .
الرياض أيضاً واحدة من أكبر المراكز التجارية
والترفيهية في الشرق الأوسط . وكما كشفت ندى العتيقي مديرة عام مركز المملكة
التجاري[2]
أن عدد مراكز التسوق في المملكة تجاوز الفي مركز عام 2013 ، ويبلغ حجم الاستثمارات فيها ما يتجاوز
خمسين مليار ريال ، تستقطب مدينة الرياض وحدها أكثر من 1500 مركز تسوق أي بما
نسبته 75% من إجمالي المراكز في المملكة . وكما تعتبر الرياض من اسرع المدن
العالمية نمواً فقد تفوقت الرياض كمدينة سياحية على عدد من المدن والمناطق
السياحية التقليدية ذات التاريخ العريق في هذا المجال نتيجة لوجود عدد من الخطط
التنموية والاستراتيجية التي جعلت منها مدينة سياحية بامتياز . وتجتذب سياحة
التسوق والفندقة والمطاعم أفواجاً كبيرة من السياح الذين تجتذبهم مدينة الرياض من
مختلف مناطق المملكة ومن دول الخليج وبقية دول العالم .
وغنيٌ عن القول أن من أكثر المنغصات في
مدينة الرياض زحام المواصلات الشديد ، حيث أن السيارة الخاصة هي وسيلة المواصلات
الوحيدة المتوفرة في هذه المدينة المكتظة . شعورك بازدحام المدينة يتفاقم مع كثرة
المخالفات المرورية وسيادة نمط من قيادة السيارات أقل ما يقال عنه بأنه "
قيادة همجية" . هذه القيادة الهمجية غير المنضبطة تسببت في مقتل الآف من
الارواح البريئة ، ووجود آلاف من الاعاقات ، والى ادخال الحزن الى كثير من البيوت
السعيدة . أعتقد جازمة بأنه يمكن أن يخفف الزحام الى النصف ، كما يمكن حل
الاختناقات كلما تزايد الفرض الصارم للنظام ، وكلما تم تفعيل الرقابة المرورية حتى
ولو كان عدد السيارات كما هو الآن أو يزيد . في هذه المدينة الكبيرة المكتظة يصل
بك اليأس أحياناً درجة القنوط بأن هناك حلاً يمكن أن يضبط المرور في هذه
المدينة . ولكن الجهود التي يبذلها مرور
الرياض ممثلاً بنظام " ساهر" قد قلب المعادلة ، وعاد الأمل يورق من جديد
بأن الناس يمكنهم التنقل في هذه المدينة دون أن يضعوا أرواحهم وأرواح احبائهم على
كفّ الموت المتربص لهم في كل شارع ومنعطف وزاوية . نظام "ساهر" قد حقق
خطوات جبارة ، حيث لا تجد شارع او إشارة أو منعطف الا وسيارات وكاميرات ساهر
موجودة هناك ، وهناك أيضاً سيارات المرور المدنية التي تضبط المخالفات دون أن يشعر
بها الناس معهم أو بينهم . نظام
"ساهر" الذي تم تطبيقه في مدينة الرياض هو نظام من أجود وأحكم الانظمة
رغم كل النقد الذي يوجه له حالياً في الإعلام السعودي . وقد استطاع أن يضبط
مخالفات السرعة في الشوارع الرئيسية ويحد من الازدحام في المختنقات للمرة الأولى
في تاريخ المدينة .
في الوقت الذي لمستُ فيه فعلياً تأثير نظام
ساهر في ضبط السرعة والمخالفات أخذني هذا الى إعادة التفكير بآراء الفلاسفة كجان جاك روسو وديفيد هيوم وستيوارت ميل
وميكيافيللي وابن خلدون حول الطبيعة الانسانية . ولعلني آمنت برأي ابن خلدون الذي
يرى أن الناس لا يمكن أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم والا عمّت الفوضى وضاعت الحقوق ،
وانما يحتاجون ألى قوة تضبطهم من خارجهم لكي يحترموا النظام والقوانين صاغرين . يحتاجون
إلى ثقافة ومؤسسات وقوانين تجعلهم ينتقلون من طور الحياة البدائية حيث الغرائز
الدنيا ومشاعر الانانية والفردانية المتطرفة الى طور الحياة المتحضرة حيث الحياة مع الجماعة ، وحيث المشاركة ،
وتبادل المصالح واحترام حقوق الآخرين . ولعلني وقفتُ برهة لأتسائل : هل فعلاً
يتحول الانسان الى حيوان مفترس حالما يُترك لطبيعته الانسانية؟ وهل الطبيعة
الانسانية خيرّة في أصلها وتحب لغيرها ما تحبه لنفسها ؟ وهل يمكن ترقية الطبيعة
الانسانية ذاتها بدون فرض ضوابط من خارجها؟ أسئلة كثيرة تحتاج ربما الى إعادة
التفكير فيها!
وإضافة الى كل مشاعر الفخر والامتنان لكل
الجهود الجبارة التي يقوم بها نظام ساهر ، أود أن يشمل هذا الفخر الكبير جميع
الجهود التي بذلتها الدولة لتحسين المرور في مدينة الرياض . إنشاء الانفاق القصيرة
في جميع التقاطعات ، وتوسيع المسارات التي تسير في خطوط متوازية ومتعاكسة لاشك كان
له الاثر البالغ في تحسين حركة المرور وخصوصاً في شمال المدينة . إذا أمْعَنْتَ
التفكير في الطريقة الذكية جداً التي تم بها إعادة تحديث طريق الملك عبدالله ، وهو
من أهم وأضخم الشوارع في المدينة ، كما أن الاملاك على جانبيه من أغلى الأملاك
التي يحتاج نزع ملكيتها الى مئآت الملايين من الريالات الا أن التخطيط الجديد
للشارع قد تحاشى توسيع الشارع ، أو نزع الأملاك على جانبيه أو تغيير معالمة أو صرف
طاقته الاستيعابية الى شوارع أخرى ، وتم عوضاً عن ذلك زرع عدد من الانفاق الحديثة
في جميع تقاطعاته الرئيسية رغم كثرتها ، وأصبح من الممكن أن تنتقل من أول الشارع
الى آخره دون أن تتوقف باشارة واحدة ، ودون أن يكون هناك أي اختناقات مرورية ،
وتستطيع أن تقطع الشارع كاملاً وهو بطول
يتجاوز عشرين كيلومتراً بأقل من عشرين دقيقة . لا شك بأن هذا الانجاز الرائع يُسجل
بفخر لحكومتنا الرشيدة ولتلك العقول الذكية التي قامت على تخطيط وتنفيذ هذا
المشروع .
نعود الى الرياض مدينة النخيل بامتياز ، فمن أجمل ما حققته
بلدية هذه المدينة وإمارتها هو القيام بتشجير جميع شوارع المدينة وميادينها
وحدائقها ومرافقها العامة والمباني الحكومية والخاصة بأشجار النخيل ، حتى غدت
الرياض واحدة من أجمل مدن العالم وأكثرها تميزاً بهذه الشجرة المباركة التي تطالعك
قاماتها الباسقة أينما وجهت . لاشك أن شجرة النخيل هي الشجرة الوطنية التي تظهر
على شعار المملكة ، وهي التي قد ارتبطت بحميميةٍ بتاريخ الانسان في الجزيرة
العربية . ولاشك بأن تأصيلها ونشرها واحترام وجودها هو امتداد لتكريم الانسان في
هذا الوطن المعطاء .
تكريم النخيل في مدينة الرياض هو جزء من تكريم النخيل والعناية به في كل مناطق المملكة ،
حيث النخيل ثروة زراعية تساهم أيما مساهمة في تنويع مصادر الدخل الإقتصادي للمملكة
. وفي كل عام تقام في شهر سبتمبر مهرجانات التمور في أسواق المملكة ، وأهمها على
الإطلاق مهرجانات التمور في عنيزة وبريدة
والأحساء ، ومما يثير الفخر والاعتزاز
حقاً أن مهرجان بيع التمور في مدينة بريدة
قد سجل مبيعات قياسية حيث بلغ دخل مهرجان بريدة بليون ريال خلال اربعين
يوما ( جريدة المدينة: 20/9/2013) اما مهرجان تمور الأحساء فبلغ دخله ما يقارب
بليوني ريال لنفس الفترة ( الاقتصادية:
20/9/2013 ) . أما مهرجان عنيزة فوصلت مبيعاته اليومية الى 700 طن من التمور
يومياً ( الرياض الاقتصادي: 27 سبتمبر 2013 العدد16531) .
تعيش المملكة الآن انتعاشاً اقتصادياً لا
يخفى على أحد ، وربما تكون المملكة من الدول القليلة في العالم التي لاتفرض
ضرائباً لا على السعوديين ولا على الأجانب الذين يقيمون فيها ويقارب عددهم تسعة
ملايين أجنبي . ومما يستحق التسجيل الآن أنني لاحظت اختفاء محلات "
أبوريال" "وأبو ريالين" التي كانت شائعة جداً في كل ركن وزاوية في
مدينة الرياض قبل بضع سنوات . ولعل السبب يعود الى انتعاش الحالة الاقتصادية من
جانب ، والى فرض معايير الجودة على البضائع المستوردة من جانب آخر. ومن الملاحظات
التي شاهدتُها أيضاً عودة ورق الجدران الى الديكورات المنزلية ، بعد ان اختفت من
الأسواق لعدة عقود . بعضها يصل سعر المتر منه الى أسعار خيالية ( لأنه موضة) رغم
أن بعض أنواعه ( المخملي الملمس بالذات) غير ملائم لأجواء المملكة مع كثرة الغبار
الذي يلتصق به بسهولة .
نظام العمل وساعاته من أجمل وجوه الحياة في
المملكة ، ويؤثر هذا النظام تأثيراً جذرياً على طبيعة الحياة في المملكة وعلى
العلاقات الاجتماعية بين الناس ، وبالتالي على التكوين النفسي ونمط الشخصية هناك .
ويبدأ العمل باكراً في الساعة السابعة أو الثامنة صباحاً ( وأحياناً في السادسة
صيفاً لدى بعض الادارات التي تفضل الخروج بُعيد صلاة الظهر) وينتهي في الساعة
الثانية بعد الظهر بالنسبة للأعمال الحكومية ، أما مدارس الأطفال فأغلبها يبدأ في
السادسة والنصف صباحاً وينتهي في الحادية عشرة
صباحاً أو مع صلاة الظهر وسط النهار .
نظام العمل هذا أكثر من رائع ، وربما لا يقدِّره حقَّ قَدْره الا اؤلئك
الذين عايشوا أنظمة العمل وساعاته في أمريكا أو كندا . ففي أمريكا يستغرق العمل
سحابة النهار كاملة ، وفي كثير من الاحيان يخرج الناس الى أعمالهم مع شروق الشمس
ولا يعودون منها الى بيوتهم الا بعد الغروب . هذا النظام يُحيل الانسان الى عَبد
للعمل ، يعطي الانسان هذا العمل كل وقته وجهده وطاقته ولا شيىء يتبقى منه أبداً .
هذا النظام يتضاد أيما تضاد مع نظام الأسرة ، حيث يستولي على جميع الوقت والطاقة
فيفصل الانسان من أسرته وأهله وأقاربه وزياراته وحتى نشاطاته الخاصة . فالموظف في
أمريكا مثلاً يعود الى البيت بعد نهاية
العمل وقت الغروب ويكون منهكاً متعباً لا قدرة له ولا طاقة لإعطاء أي شيىء لأسرته
وأطفاله وأهله . وكثير من الناس لا يرون أطفالهم ولا يجدون الوقت للتفاعل معهم الا
في إجازة نهاية الأسبوع . ويُسلٍّم هؤلاء الأهل أطفالهم وفلذات أكبادهم الى
الغرباء ليربوهم بدلاً عنهم . هؤلاء الموظفون لا يفتقدون أطفالهم وأسرهم فقط وانما
أيضاً أهاليهم وأقاربهم ، فبالكاد يجدون وقتاً ليزوروهم في الاجازات الرسمية حتى
ولو كانوا يقيمون معهم في نفس المدينة . أما في السعودية فأنت تعطي نصف وقتك لعملك
، ونصفه الآخر لنفسك وأسرتك وأهلك . في السعودية يعود الناس الى بيوتهم بين الظهر
والعصر ، فيتناولون الغداء ويرتاحون قليلاً ثم يتفرغون في فترة ما بعد العصر
لأولادهم وأسرهم وزياراتهم وأشغالهم الخاصة وهواياتهم الشخصية . فالوقت هناك طويل
وتتوازن فيه ظروف الحياة بشكل رائع وممتاز .
أنت في هذا البلد الكريم المعطاء لن تشعر
بالملل والفراغ أبداً رغم كثرة الوقت ووفرته معك . فالزيارات الاجتماعية للأهل
والأقارب والأصدقاء والجيران تأخذ حيزاً من الوقت لاشك في ذلك ، وإذا لم يكن لديك
أقارب أو أهل أو اصدقاء لتزورهم ويزوروك في أي وقت ( بدون مواعيد ولا ترتيبات) ،
فإن هناك كثير من النشاطات التي تُشْبِع فيها نزوح روحك الى الترويح والفائدة
. الأسواق في المملكة ( وفي الرياض على
وجه الخصوص) من أكثر الأماكن التي يمكن أن تقضي فيها وقتاً ممتعاً حتى ولو كنت -
ككاتبة هذه السطور- لست من النوع الذي يستمتع بزيارة الأسواق إلا أن اسواق الرياض
لها طابع خاص . ليس الذي يجذبك في أسواق الرياض هو معقولية الاسعار في الغالبية
العظمى منها ، وليس لأنك قد تجد بضائعاً ذات نوعية ممتازة بأسعار متدنية ، ولكن من أجل ذلك التنوع العجيب ، وتوفر
الخيارات التي لا حصر لها في السعر والنوع والمادة والمصدر والمقاسات في كل
البضائع مهما تنوعت . ستجد بضائعاً مجلوبة من كل أصقاع العالم تقريباً ، فإلى جانب
الانتاج المحلي هناك انتاج دول الخليج ، والدول العربية ، واوربا بمختلف دولها
وأمريكا وكندا والصين وتايوان ودول الشرق الأقصى والهند وايران ودول امريكا
الجنوبية كلها أحياناً موجودة جنباً الى جنب في سوق واحد وأحياناً في محل واحد .
وإذا لم تكن من هواة الأسواق الحديثة ، فإنك
ربما تكون- ككاتبة هذه السطور- تهوى البحث و" الحثبرة" في الأسواق الشعبية
. الأسواق الشعبية في مدينة الرياض هي عالم خاص قائم بذاته ، هناك أسواق "
ابن دايل" وهي أسواق بعضها في أماكن مسقوفة وبعضها في الهواء الطلق ، وربما
تحتاج الى زيارتها لأكثر من ثلاثة أيام لكي تغطي نصف البضائع المعروضة فيها .
وهناك اسواق الديرة المجاورة لقصر الحكم ، وفيها ما لذ وطاب من مختلف أنواع
البضائع التقليدية والحديثة . وأمتع ما في أسواق الديرة تلك المحلات التي تعرض
البنادق القديمة والسيوف والخناجر المرصعة بالذهب والفضة ، وبعض المجوهرات القديمة
، وكثير من مختلف المقتنيات الصغيرة والنفيسة والشخصية يبيعها بعض الناس بسبب
تقادم الزمن عليها أو لظروف أخرى . وهناك حراج "ابن قاسم" ، وهو سوق
مفتوح عظيم المساحة ليس كله حراج وانما تقع على جانبية دكاكين ومحلات كثيرة تستثمر
على هامش الحراج . وهناك اسواق الشميسي
واسواق مكة ، وهي أسواق شعبية لذوي الدخل المنخفض ، وتعرض بضائع كثيرة ومتعددة
بأسعار زهيدة وبنوعية تتراوح بين الجيد والأقل بحسب السلعة . أما اسواق العويس
وأسواق طيبة ، فهي الأخرى أسواق متعددة الأغراض رغم أن أغلبها يتخصص ببيع الأواني
المنزلية الحديثة ومنتجات البلاستيك والذهب والمجوهرات . أما سوق الزل في وسط المدينة فيتخصص ببيع جميع
أنواع السجاد " الزل" والمجلوب من مختلف دول العالم ، تتراوح فيه
الأسعار تراوحاً كبيراً بحسب نوعية السجادة وطريقة صنعها ومصدرها . وفي سوق الزل
ذاته يقع على طرف منه سوق " البشوت" . والبشوت هي العباءات الرجالية ذات
الجيوب المقصبة بخيوط الذهب او الفضة . كما تباع مع البشوت أنواع من ملابس الشتاء
المصنوعة يدوياً " كالبيدي والصايات والفروة " وأنواع من الشالات وأنواع
القماش التقليدي الذي يرضي اذواق بني البادية على وجه الخصوص . أما سوق
المعيْقليّة فهو عبارة عن ست من العمارات الضخمة المتجاورة والتي يحتل السوق
طوابقها السفلى . وسوق المعيقلية مخصص لبيع العود والبخور والمعمول بكل أشكاله
وأنواعة ، كما تباع فيه كل أنواع العطور التقليدية كالمسك والعنبر ودهن العود وروح
الورد وغيرها من العطور .
هذه الأسواق هي ثروة من البضائع والأشياء
التي لا تجدها أبداً في أي مكان في الدنيا . تعرض هذه الأسواق أنواعاً عجيبة
وغريبة من البضائع القديمة والجديدة ، توجد البضائع القيمة جداً جنباً الى جنب مع
البضائع التي يمكن أن تعتبرها " تالفه او زبالة" او ليس لها قيمة على
الأطلاق . أحيانا تغشى تلك الأسواق ليس لأنك تبحث عن شيىء محدد ، ولكنك تبحث عن
الاندهاش والفرح الطفولي حينما تعثر بين أكوام كثيرة من دقائق الأشياء على أشياء
تعجبك لتقتنيها . أحياناً تجد في تلك الأسواق بضائعاً رائعة الجودة ، أو نادرة
الوجود بأسعار لا تخطر لك ببال . أحب شخصياً البحث في الأسواق الشعبية عن الأواني
المنزلية والخزفيات ، والأطباق المصنوعة من الصيني النفيس خاصة الأنواع القديمة
منها والتي لم تعد معروضة بالأسواق الحديثة ولم تعد تُنتج بنفس المواصفات الجيدة
التي كانت تصنع بها الأشياء قبل عقود من الزمان .
مطاعم مدينة الرياض هي وجه آخر من وجوه
المتعة في الاقامة في مدينة الرياض . مدينة الرياض من قلائل المدن في العالم التي
تعرض طيفاً واسعاً وثرياً جداً من خيارات الطعام وأشكاله ومذاقاته وأسعاره من كل
أصقاع الكرة الأرضية . المطاعم الأجنبية في المدينة من أجود المطاعم في العالم ،
فمذاق الأطعمة تُستورد وتُعرض على المستهلكين مع الاحتفاظ بنكهاتها الأصلية "
دون تدجين" . فالأطعمة الصينية أو اليابانية مثلاً هي أقرب في مذاقها وطريقة
طبخها ومكوناتها الى المذاق الأصلي في بلد المنشأ منه الى المذاق الذي تم "
تدجينه" ليتلائم مع أذواق الناس في البلد المضيف . وعلى سبيل المثال ، رغم
انني جربت تناول الطعام في بعض المطاعم اليابانية هنا في أمريكا ، فإن المطاعم
اليابانية في الرياض هي فقط التي تعرض أنواعاً كثيرة جداً من المقبلات اليابانية
التي تعتمد على أعشاب البحر ، كما تقدم "ايسكريم الشاي الأخضر" الذي
جربته للمرة الأولى في الرياض . كما تتبع المطاعم اليابانية في الرياض تلك الطقوس
العجيبة لتحضير الطعام الياباني بما فيها طريقة استقبال الزبائن ، الى موسيقى
وأجراس أدوات تحضير الطعام أمام الجالسين ، الى جلسات الأرض على الوسائد والحشوات
اليابانية والتي لا تجدها في معظم البلدان الأخرى .
المطاعم الشعبية لها جمهور كبير من مختلف
مناطق المملكة ، وتقدم معظم هذه المطاعم
الأطباق المعروفة في مختلف مناطق المملكة بالاضافة الى أطباق اليمن وحضرموت .
المطاعم الشعبية في غالب الأحيان جيدة المذاق ورخيصة الثمن ( تتراوح الوجبة لشخصين
بين 20-30 ريالا فقط ) يليها المطاعم العربية ( اللبنانية والمغربية خصوصا) ، ثم
المطاعم الهندية والأفغانية والتركية والإيرانية والتي تعرض طعاماً مشبعاً
بالبهارات الحارة ومصبوغة بألوان الطعام المختلفة . ثم مطاعم الشرق الأقصى وأهمها
المطاعم الصينية واليابانية والتايلاندية والفيتنامية ، وتعرض أنواعاً من الطعام
المميز لتلك البلدان . أما المطاعم الأوربية فهي أغلى أنواع المطاعم ، وخاصة
المطاعم الفرنسية او الايطالية الراقية والتي يصل سعر الوجبة لشخصين في بعضها اكثر
من الف وخمسمائة ريال .
وإن كنت في مزاج راغب في لزوم المنزل ، فإن
لديك في السعودية متعة لا تجدها في أي مكان آخر . التلفزيون في السعودية متعة
رائعة حيث يتوفر لديك ما يزيد على ثلاثة آلاف
قناة تلفزيونية دفعة واحدة! . في السعودية ، تستطيع أن تستقبل عبر الاطباق
الفضائية ما يزيد على الف محطة عربية ( على قمر عربسات ، ونايلسات ) بحيث تكون
جميع محطات التلفزيون العربية في كل البلدان العربية بين يديك . ليس ذلك فحسب
وانما تجد أن عدداً كبيراً من محطات الدول المجاورة تبث لك بالعربية او الانجليزية
مختلف البرامج والاخبار والأفلام والمسلسلات ، فهناك ايران وتركيا وبعض المحطات
الروسية يمكنك التقاطها بسهولة . أما اذا كان لديك قمر "هوت بيرد" أو
القمر الصيني فيمنكك التقاط عدد لا نهاية له من المحطات الأخرى . هناك ايضاً عدد
من المحطات الاجنبية الناطقة بالعربية كالمحطات الايطالية والاسبانية والفرنسية
والانجليزية والامريكية والروسية والصينية واليابانية ومن كوريا الجنوبية . تستطيع
أيضاً الاشتراك مع بعض محطات التلفزيون ك" أوربت" و" ستار تي
في" و "شو تايم"وستحصل على
رزمة رائعة من الأفلام العالمية والبرامج التلفزيونية والتي تحتار أحياناً أيها
ستشاهد . وحين يكون لديك جهاز تلفزيون بحجم ومواصفات جيدة فإن متعة الجلوس ومتابعة
التلفزيون مع الأسرة والأولاد لن تجدها في أي مكان آخر في العالم .
أما في أواخر فصل الخريف ، وفي فصل الشتاء
وأوائل فصل الربيع حين يعتدل المناخ ، ويطيب النسيم ، وتهب الرياح الرطبة من ناحية
الشمال فلا تنسى أن أجمل مكان في الدنيا يمكنك زيارته هو الصحراء . هذا كلام قد
يبدو على شيىء من الغرابة إذ أننا نسمع كثيراً أن الصحراء مكان يخلو من الأشجار
والخضرة والماء والحياة . والحقيقة انني أجد البراري الواسعة شبه الجرداء الا من
شجيرات الغضا أو الرمث أو الحرمل أو السبط أكثر جمالاً وأعمق تأثيراً في النفس
والروح من الأماكن الخضراء ذات الأشجار الكبيرة والمياه الوافرة . جرب ( على سبيل
المثال) أن تخرج الى الكثبان الرملية
الصافية في نفود الثويرات ( المحاذي لعنيزة من جهة الشرق) بلونها الناري
الضارب الى اللون الذهبي المحمر المتوهج . ستدهش غاية الدهشة حين تفكر أن تلك
الكثبان العظيمة التي تعانق كبد السماء ليست الا بلايين البلايين من الحبيبات
الرملية التي نحتتها قوى التعرية الطبيعية لتتماثل جميعها لوناً وحجماً ، وهي بهذا
التكوين العجيب ليست الا أحد معجزات الله في خلق الطبيعة والتي نادراً ما نعطيها
الوقت والجهد للتفكير فيها .
جرب أن تخرج في فجر أحد الأيام الصافية في
وقت الغسق الذي تختلط فيه الظلمة ببعض اللون البنفسجي قبيل طلوع الفجر الى "
الخبيبة أو المصفَّر" ، وهي مناطق رملية رائعة الجمال غرب عنيزة ينبت فيها
شجر الغضا بكثرة . وجرب أن تضرب عميقاً في كبدِ هذه الرمال بعيداً عن صَخَبِ
السيارات وهدير الآلات وأضواء الكهرباء وعبث الحداثة ، وحين تصل هناك يمكن أن
تَسرحَ بناظريكَ الى تلك الآفاق البعيدة المترامية حيث يحيط بك بحرٌ من الرمال من
كل جانب ، جَرّب أن تلقي بثقل عظامك وكتلة جسدك مستلقياً على تراب تلك الرمال
الباردة قبيل طلوع الشمس . ستُصيخ السمع لذلك الصمت المطبق حولك الاّ من نبضات
قلبك وخروج النفس من صدرك . هذا الكون الرائع البهيج المحيط بك سيستكين في وجدانك
، ستتوحد به كما سيتوحد بك ، وسيغمر أعماقك بشعور روحاني لن تستطيع أن تصفه أي لغة
أو كلام . سيمر الوقت وأنت في هدأتك الروحية المتأملة تلك حتى تداعب أشعة الشمس
الشارقة من خلف الكثبان البعيدة أجفانك المطبقة ، فيرتجع اليك وعي آخر من جديد ،
فإذا الكون قد استفاق على شروق الشمس التي أصبحت تغمر الرمال والشجيرات وكل
الأشياء بنور الصباح .
هذا يومٌ جديد ، نهار جديد قد
ولد في دورة هذا الكون ، فإن رغبت في تناول الإفطار على الطريقة العنيزاوية
القديمة في ذلك الصباح الباكر فعليك بإحضار لبن طازج وبارد ، ثم قم بجمع الأغصان
اليابسة من أشجار الغضا حولك ، لتوقد ناراً حتى يبدأ جمرها يتلظى ، ثم تخبز بين
طبقات الجمر " قرص عقيل " والذي كنتَ قد خمرّتَ عجينته منذ ليلة البارحة
. ولا تنسى أن تدفن في طرف الجمر بعض
" اليبيس" ، وهو تمر السكري الجاف ، والذي وصل فيه تركز السكر إلى أعلى
المستويات . دع قرص عقيل ينضج بهدوء وصبر ، ثم حين تنتفخ حوافه ويتحول الى قرص
ذهبي محمر أخرجه من المجمار حاراً لتأكله
مع تمر السكري الذي ليَّنَتْهُ حرارة الجمر وأكْسَبَتْه رائحة مُدَخَّنَة لن
تنساها ما حييت .
د. فاطمة بنت عبدالله بن ابراهيم السليم
السعودية ، اكتوبر 2012 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق