شيىء عن الرائحة وحاسة الشم
د. فاطمة بنت عبدالله السليم
ترتبط الروائح في أذهاننا بأعذب الذكريات
وأجملها ، وفي أحايين أخرى ترتبط الروائح بأكثر الأفكار رعباً وأكثر الذكريات قسوة
على وجداننا ومشاعرنا . الروائح كينونات غريبة وعجيبة إذا نحن فكرنا فيها بشكل
عقلاني مجرد ، فنحن نعرفها بالاحساس الذي يترجمها الى مشاعر سارة أو غير سارة .
نحن نرتبط بالروائح منذ ساعة الميلاد الى آخر لحظة من لحظات الوعي ، إما عن طريق
إدراكها في العقل الواعي مباشرة أو في التعرف عليها في العقل اللاواعي .
وعلى سبيل المثال ، فمنذ الطفولة ارتبط
وجداننا في نجد برابطة حميمة مع روائح بُن القهوة العربية وحبيباتها الخضراء
الباهته وهي تتقلب ذات اليمين وذات الشمال في حماصة النحاس الحامية وجنباتها تصطلي
على حرارة جمر الغظا الذي يتلظى تحتها ، فتتحول الحبيبات رويداً رويداً الى اللون
الذهبي الفاتح ، وتبدأ الحبيبات بافراز مادة دهنية على شكل فقاعات صغيرة جداً تطلق
روائح لا يمكن وصف طيبها الا بالقول بأن رائحتها من "رائحة الجنة " كما
يقول أهل القصيم .
ترتبط ذكريات الطفولة أيضاً بروائح الخبز
العربي الطازج يفوح من أفران الخبز الحارةُ والتي كان يملك اسرارها ويشغلها بكثرة
أخوتنا اليمنيون في المملكة . فما أطيب رائحة " المفرود ، والمنفوخ والمبروم ، والمنقوش ، والمنصوف وخبز الشريك
وغيرها من الأنواع الأخرى التي انقرضت تماماً بفعل الحداثة وبفعل دخول المخابز
الاتوماتيكية الى السوق . كما كان ولايزال للخبز الأفغاني مكانة خاصة ، فخبز
"التميس " بأنواعه المتعدده صار من أميز وجوه الثقافة المحلية في
المملكة العربية السعودية ، وله روائح لذيذة لا تقاوم خاصة في فصل الشتاء .
لا أنسى أيضاً روائح انغرست في أعمق طبقات
الوجدان ، ومنها عبير زهور الاقحوان البري في نجد في فصل الربيع ، وعبير زهور حقول
البرسيم " الثنوي" ذات اللون البنفسجي بتدرجاته البديعة الخلابة بين
الفاتح الليلكي والغامق وهي تتمايل راقصة لأولى نسمات فصل الخريف في حقول القصيم
الواسعة المترامية . لا أنسى أيضاً تلك
الروائح المميزة جداً لأشجار الرمث وأشجار الغضا في البراري القريبة من عنيزة .
هناك راوئح كثيره ارتبطت بدوران الفصول
وتبدل درجات الحرارة على مدى العام . فهناك رائحة أوراق شجر التين العريضة
القاسية ، ورائحة أزهار الليمون البازغة
من أكمامها، ورائحة الفلفل الرومي الأخضر
ورائحة غصينات شجيرات الطماطم ، ورائحة الرُّطب الذي نضج لتوه في نخلة من
نخيل السكري ، ورائحة السواقي الرطبة في
هجير حرارة وسط النهار ورائحة بوظة
الفانيلا وبوظة التوت الأحمر وهذه ترتبط جميعها في مواسم نهايات الصيف
وبدايات الخريف . الشتاء له روائحه المميزه أيضاً . ومنها روائح أخشاب الغضا التي
تستخدم للتدفئة او الطبخ ، وروائح التبن الرطب في مخازن المزارع الكبيرة . كذلك
لاانسى روائح حليب البقر او الماعز الطازج الذي يُغلى ويُحلى بالسكر أو بدبس التمر
ويُنكّه بالهال او الزنجبيل ويقدم مع فطور الصباح في أيام الشتاء الباردة .
حاسة الشم هي أحد الحواس الرئيسية لدى
الانسان ، وتتحكم بالشم مجموعة كبيرة جداً من النهايات العصبية الموجودة في تجويف
الانف ، والتي تنقل الرائحة من كونها عوالق دقيقة متناهية الصغر molecules تتبخر وتنطلق في الهواء وعند وصولها الى حويصلات الشم كمستقبلات
عصبية تتفاعل معها كيميائيا وتوصلها الى المخ على شكل رائحة . ويقوم المخ بدوره
بترجمة الرائحة ويصنفها بحسب نوعها ، ويقيس شدتها إن كانت قوية او ضعيفة .
وحين تصل الرائحة الى أعصاب المخ ويقوم
بترجمتها الى معنى معين ، كرائحة التفاح او الياسمين او رائحة الكمون أو الصابون
او العنبر او غيرها من أطياف لا نهاية لها من التصنيفات فهو يعتمد على الخبرات
السابقة للروائح التي شمها الانسان طوال فترات حياته السابقة ، واصبح لها مخزون في
الذهن يتم استدعاؤه بطريقة تلقائية ليتم مقارنة الرائحة الجديدة على حسب ما تكوّن
لدى الانسان من
خبرة عنها في السابق .
والرائحة ليس لها وجود مادي بحت ، فهي
كائن فوق مادي لا يُرى بالعين المجردة ، فهي ذرية التكوين ، متناهية بالصغر بحيث
لا تدرك عقلياً بالنظر او اللمس ، ولهذا تعذر أن توصف الرائحة عن طريق اللغة
مباشرة . فالرائحة لا يمكن وصفها الا من خلال إسنادها الى تجربة سابقة تقاس بها ،
ولكونها ليست ذات عناصر مادية مدركة مباشرة فهي تستعصي على التحكم والامساك والوصف
.
إن القدرة على شم الروائح كأحد الحواس
الخمس لدى الانسان تعتبر أقل الحواس أهمية في حياة الانسان . فهناك أناس يعيشون
حياة مديدة ويموتون دون أن يكون لديهم قدرة طبيعية على الشم ، ويعيش أيضاً كثير من
الناس حياة طبيعية حتى بعد همود حاسة الشم بسبب الحوادث او الاعطاب التي قد يتعرض
لها المخ أو مراكز الشم في جذع الانف لدى بعض الناس في مختلف مراحل الحياة . ومن
المؤكد بحسب الابحاث العلمية بأن جزءً كبيراً من قدرة الانسان على الشم وتمييز الروائح
قد اضمحلت كثيراً بعد دخول الانسان في عالم الميكنة والتصنيع الواسع في العصر
الحديث ، حيث قضت عوادم السيارات والروائح الصناعية وارتفاع نسبة ملوثات الهواء
على كثير من القدرات الطبيعية على الشم لدى غالبية الناس . أيضاً فإن استخدام
المنظفات المنزلية ، ومزيلات الروائح ، ومركبات التعقيم في المنازل والمستشفيات قد
قضى ايضاً على جزء من حاسة الشم .
القول بأن حاسة الشم هي أقل حواس الانسان
أهمية قول صحيح ، فهي لا تعادل حاسة البصر أو السمع أو اللمس أهمية في حياة
الانسان . ولكن هذا القول لا يلغى الأهمية القصوى التي تلعبها حاسة الشم في تشكيل
وعي الانسان ، وفي إعطاء أبعاد نفسية ومعرفية وجمالية لكل العوالم والاشياء التي
يتعامل معها الانسان يومياً ، وتدخل في النهاية كعناصر حية من ذاكرته ووجوده
واستجاباته للعالم المحيط به . فكما أن الرؤية لموضوع ما في صورة أحادية الابعاد
يختلف الوعي بها تماماً عن الصورة ذات الابعاد المتعددة والتي تعطي تفاصيل غنية
جداً عن الموضوع تجعله يختلف كلياً عن وضعه الجامد في الصورة ذات البعد الواحد ،
فإن الرائحة أيضاً تعطي أبعاداً متعددة للموضوعات التي يتفاعل معها الانسان يومياً
، وتضيف الروائح ابعاداً ثرية لادراكات الانسان ووعيه بالعالم المحيط به ، فتصبح
الرائحة أحد الصفات التي تحدد ماهية الاشياء وتعطيها تعريفاً يميزها عن بقية
الموضوعات الأخرى .
وإذا كان إدراك الرائحة لدى الانسان يعطي
بعداً آخر لوعيه بما حوله ، فإن هذا الوعي قد يتحكم في بعض الحالات في رُمّة وجود
الانسان وسلامته . فكثير من الغازات السامة
التي توجد في بعض طبقات الكرة الارضية في المناجم والآبار الجوفية ، أو تلك
التي تنبعث أيضاً من بعض المصانع نتيجة لاتحاد بعض العناصر الكيماوية لا يمكن
ادراك وجودها لولا رائحتها المميزة ، وكذك أنواع الادخنة الخانقة التي تنبعث من
الحرائق والمصانع التي قد يتعرض لها الانسان لا يمكن تمييزها الا من خلال رائحتها
المميزة ، والتي يدركها مخ الانسان ويترجمها على أنها علامة لوجود خطر محدق يتربص
بالانسان يستلزم الهرب والاتقاء بعيداً عن مصادر الخطر . وفي أغلب الأحايين يتم
اضافة رائحة كريهة نفاذة لانواع الغازات السامة التي تنتجها المصانع ، والتي ليس
لها في الطبيعة أي روائح مميزة كما في غاز Butan حيث يضاف له رائحة كريهة لكي يتمكن الناس من ادراك وجوده وتحاشيه
.
ولعله من نافل القول أن القدرة على الشم وتمييز
الروائح تختلف من شخص الى آخر في القوة والشمول . فحاسة الشم تصل اوجها في ريعان
الشباب الاول ، وتبدأ في الخمول والهمود
كلما تقدم الانسان في العمر . كما أن مجال إدراك الروائح والتمييز بينها
يختلف من شخص الى آخر . فهناك اشخاص قادرون من الناحية البيولوجية البحتة على
ادراك اطياف محدودة من الروائح لا يتجاوزونها ، فالنهايات العصبية في تجويف الانف
تكون حساسة لبعض الروائح وتستطيع نقلها الى المخ دون غيرها . وهذا على عكس آخرين
يكون لديهم مجال واسع جداً يمكنهم من ادراك وتمييز انواع كثيرة مختلفة المصادر والأنواع من الروائح .
ولعل البحوث العلمية الحديثة أثبتت أيضاً أن
النساء أقوى من الرجال في حاسة الشم عموماً ، كما أن قدراتهن على تمييز أطياف
واسعة من الروائح اوسع بكثير مما هي لدى الرجال . ويعتقد هؤلاء العلماء أن هذه
القدرات قد نمت بشكل أكبر لدى النساء منذ بداية وجود الانسان على الارض كنوع من
استراتيجيات البقاء والمحافظة على النوع ، وحاجتهن الى حماية انفسهن وأطفالهن
الصغار من الحشرات السامة وعوادي الطبيعة المختلفة في ذلك الوقت المبكر من تاريخ
الانسان قد ساعد في تطور هذه الحاسة . ولعل هذا يشرح جزئياً كون النساء يتخصصن في
أغلب الثقافات التقليدية والتاريخية بالاحتفاظ بأسرار الخلطات العطرية ، وخلطات
البهارات المختلفة التي تتحكم بروائح الطعام ، كما أن أنواع من البخور والادخنة
المعطرة وذوات الروائح المتمايزة ارتبطت بعالم النساء من الكاهنات وقارئات الكف
وضاربات البخت والساحرات والقائمات على المعابد المقدسة في العالم القديم .
ولعل كون الاناث أقوى
شعوراً بالروائح وتمييزها من الذكور لا ينطبق على عالم الانسان فقط وانما ينطبق
على عالم الحيوان أيضاً . فالكلاب البوليسية التي تستخدمها الشرطة في مختلف البلاد
في الاستدلال على روائح المخدرات او المتفجرات او الانواع الممنوعة من البضائع
تكون غالباً من الاناث .
إن ارتباط الروائح بوعي الانسان يجعل
الرائحة تنتقل من كونها مكون كيمو- بيولوجي الطبيعة والتركيب الى أن تكون مكون
نفساني ذهني تندغم عميقاً في ذاكرة الانسان ووعيه ومشاعره وطريقة استجاباته
المتعددة لظروف الحياة من حوله . وكمثال على ذلك ، فإن فقدان الانسان لشخص عزيز
غيبه الموت حديثاً يمكن أن تقدح في فؤاده ووجدانه الاحزان والاشجان فجأة حينما تمر
على وعي هذا الشخص رائحة شبيهة لرائحة ذلك الشخص الغائب . فالرائحة وحدها يمكن أن
توقظ في ذاكرة هذا الانسان ذكرى ذلك الشخص الغائب من جديد وكأنه حي يرزق .
ومن هنا فالرائحة رغم كونها هيولية التركيب
فهي ذات ارتباط كبير بذاكرة الانسان ، ويمكن استرجاع الرائحة في الذهن دون أن يكون
هناك قدرة على تمثيلها مرة أخرى . فالرائحة تلتصق بحميمية بخبرات الانسان وتجاربه
، وتعرّض الانسان لروائح معينه يجعل الانسان يتفاعل مع هذه الروائح بحسب الخبرات
التي تماهت معها واندغمت فيها منذ زمن طويل احياناً . فمثلاً ، توقظ رائحة شبيهة
برائحة بيوت الطين المشبعة برطوبة المطر ذكريات حميمة عند غالبية الناس الذين
عايشوا البيوت الطينية ورائحتها في نجد . كما توقظ روائح المنظفات والمعقمات التي
يضاف لها رائحة الصنوبر الصناعية مشاعر الذعر وعدم الامان نتيجة لارتباطها بالمرض
والألم والمستشفيات .
وفي الاحلام التي اهتم كثير من علماء
النفس برصدها وتحليلها فإن الروائح التي يشمها الحالم أثناء حلمه تشكل عنصراً
حاضراً من مكونات ودلالات ذلك الحلم . فمثلاً ، الشخص الذي ذكر بأنه شم رائحة
والده المتوفي أثناء تفاصيل حلمه فهو قد استحضر عنصر الغياب والموت من خلال
الرائحة دون أن يكون للوالد المتوفي أي دور حقيقي في احداث الحلم وتفاصيله . ومن
هنا تكون الرائحة رمزاً بديلاً حاضراً يحمل هوية الغائب ، ويستدخل هذا الغائب في
نسيج الاحداث بشكل انسيابي ومحكم .
وإذا كانت الرائحة أحد الابعاد التي
تشكل وعي الانسان وخبرته ، فهي عنصر من عناصر تشكيل الهوية . ولعله من المعروف أن
لكل انسان رائحة طبيعية خاصة به قد لا يدركها هذا الانسان بنفسه ولكن بإمكان الناس
الآخرين ادراكها وخاصة اولئك الذين يتعاملون معه بشكل قريب كأفراد اسرته وأهله .
ولعله من الحقائق العلمية أيضاً أن الرضيع حديث الولاده يميز أمه من رائحتها ،
وكثير من المواليد الذين يقبلون على الرضاعة من أمهاتهم يمتنعون عنها حتى المرض
والموت في حال غياب الأم أو نقل الوليد للرضاعة من امرأة أخرى . فالوليد يميز أمه
منذ ساعات الولادة الاولى من خلال الرائحة .
أما الرائحة لدى الراشدين فهي أحد عناوين
الهوية الشخصية . ولعله من المفروغ منه الآن أن الهوية الشخصية تدعم الآن برائحة
العطر الخاص الذي يفضله كل شخص ليكون عنوانه وجزء ممثل من امتداداته عبر العلاقات
الشخصية التي يكون هو جزء من دائرتها ، كالاصدقاء والاقارب والأسرة والاشخاص
الآخرين الذين قد يتفاعلون معه بشكل او بآخر.
وهذه الفكرة قد تجاوزت كثيراً مجرد التفضيلات الشخصية حتى أصبحت جزءً
كبيراً من قطاعات صناعية قائمة بذاتها تدار من خلال مصانع وشركات ضخمة متعددة
المواقع والجنسيات ، تعمل على اصدار تشكيلات من الروائح كل عام ، وتستدخل رأسمال
ضخم جداً قائم اساساً على فكرة الترويج لفكرة أن الرائحة هي امتداد للهوية الشخصية
المميزة . وفي العصر الحديث ، فإن قطاع ربحي كبير قد قام على أساس الاعلان
والترويج الاعلامي للعطور والروائح في ارتباطها بشخصية الانسان وهويته .
ومع تقدم الانسان حضارياً وانتشار الصناعة
وتقدم البحوث الكيميائية فقد تمايزت الروائح كثيراً واختلطت ببعضها ، وأصبح بالامكان تركيب كثير من الروائح من
مجموعة من العناصر ذوات الروائح المختلفة . كما أن كثير من الروائح العطرية أصبحت
ذات مصادر صناعية ولم تعد الغالبية العظمى من عطور اليوم تستخرج من مصادر نباتية
او حيوانية كما كان الوضع قائماً في ازمنة قديمة . فقديماً كانت الزهور والورود
ونسغ بعض أوراق أو أغصان النباتات تعتبر مصادر أساسية لصناعة العطور . كما أن
انواعاً منها كرائحة المسك مثلاً تستخرج من بعض الغدد في جسم بعض أنواع الغزال .
أما في الوقت الحاضر فالطيف الاغلب من الروائح هي ذات مصادر صناعية كيميائية ،
ويتم مماهاتها في بعض الاحيان بالروائح الطبيعية للزهور او الفانيلا أو الفل او
الياسمين او الزهور البرية .
يضاف الى ذلك أن
الثقافة الامريكية والاوربية الحديثة التي تتزعم ثقافات العالم الحديث اليوم تقف
في عداء مباشر ضد جميع روائح الجسم الانساني الطبيعية وتميل الى إحلال روائح
صناعية هادئة جداً
وغير محسوسة بشكل مباشر محل الرائحة الطبيعية للجسم . ومن هنا تتفنن المصانع في
اختراع مزيلات العرق ، وانواع الصابون المعطر ، وأنواع غسيل الفم والاسنان ،
ومعاجين الحلاقة ، ومعطرات الملابس والأغطية وانواع المنعشات المعطرة التي تستخدم
يومياً ضد الروائح الطبيعية للجسد ، فتعمل بشكل غير مباشر على صب الناس في قوالب
من التجانس والمشابهة تتطلبها طبيعة الحياة في شكل تنظيم اجتماعي شامل لحشود هائلة
من البشر في مكان واحد .
ولعل الاتجاه الاجتماعي
في الثقافة الامريكية على الخصوص والاوربية على العموم الى محاربة روائح الجسد
الطبيعية كروائح العرق والشعر وثنايا الجلد الذي يفرز روائحاً مختلفة إذا بقي مدة
طويلة دون غسل او تنظيف او روائح افرازات الجسم عامة فله بُعد ثقافي ديني مميز
يَخفَى على كثير من الناس . ففي القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر كان غالبية
المهاجرين إن لم يكن كلهم يأتون الى أمريكا من اوربا . والغالبية من البروتستانت
الهاربين من الاضطهادات الدينية في اوربا كان أغلب القادمين منهم الى أمريكا من
فئة المتطهرين Puritans The وهم مجموعة من البروتستانت الذين بزغت حركتهم في اواخر القرن
السادس عشر في انجلترا ، ثم صار لهم تأثير كبير في القرون اللاحقة. وكان من أهم الركائز التي نادى بها هؤلاء
المتطهرين الدعوة الى النظافة الشخصية ، وسن ناموس الاستحمام الصباحي اليومي لكل
بروتستانتي جيد . وامتد ذلك الى العناية الفائقة بتنظيف الملابس ، وتنظيف البيوت ،
والقضاء على النفايات والقمامة ، وتنظيف الاماكن العامة والميادين والحرص على
المظهر المتطهر من جميع اشكال الاوساخ في كل شؤون الحياة . ومن هنا تم اعتبار
النظافة بجميع وجوهها أحد القيم الرئيسية في المجتمع الامريكي الى اليوم . وتعتبر النظافة الشخصية المتمثلة بالاستحمام
اليومي صيفاُ وشتاء وفي جميع الفصول أحد المقاييس التي تقاس بها شخصية الفرد
المتحضر ، ويتم تنشئة الاطفال منذ سن
الميلاد على الالتزام بالاستحمام اليومي ، وتشعر الامهات الامريكيات بحرج شديد في
حال أهملت إحداهن بشكل او بآخر تنظيف اطفالها بحسب ما يتوقعه المجتمع منها .
الثقافة الامريكية
ايضاً لا تدعم فقط قيم النظافة الشخصية والعامة ، ولكن أيضاً هي تكافح كل اشكال
المبالغة فيما يخص الروائح الشخصية . فاستخدام انواع العطور ذات الروائح الفائقة او
الصاعقة او حتى المميزة بسهولة ليس محبذاً في نظر الثقافة الامريكية . وترتبط
العطور في الذهنية الامريكية بالعلاقات الحميمة بين الازواج والتي يجب الا تتجاوز
غرفة النوم . وبالتالي فإن استخدام العطور في الاماكن العامة وأماكن العمل كما
اعتاد على ذلك كثير من الناس في المجتمعات الأخرى هو مظهر مستنكر وغير محبذ
ويُنبىء عن الابتذال والخروج عن المألوف وعدم احترام الآخرين في نظر الثقافة
الامريكية التي تقتصر فيها الروائح على رائحة صابون الملابس او صابون الاستحمام
اليومي فقط.
إن ارتباط الرائحة بوعي الانسان لايقتصر
فقط على الادراك العقلي والشعوري لنوع الرائحة ودرجتها وتصنيفها ، وانما للروائح
بُعد روحاني ونفساني أيضاً . فالرائحة تتجاوز في تأثيرها على الانسان مجرد التصنيف
والتفضيل ، فهي ترتبط بمشاعر الانسان وغرائزه وتكوينه النفساني أيضاً . ومن هنا
كان للرائحة في كل زمان ومكان بعد روحاني مميز . فمن الناحية الدينية ، كانت المعابد على اختلاف أشكالها ودياناتها
تحتفي بأنواع من البخور والعطور التي تحرق في جنباتها او ترش على المتعبدين من زوارها
. فأصبحت بعض العطور ذات بعد يرتبط بالمقدس والعلوي والسماوي المتجاوز لواقع
الانسان اليومي المعاش . وفي التراث الديني الاسلامي ، فإن قصة سيدنا يوسف عليه
السلام تشرح كيف ارتد على يعقوب بصره بعد أن شم رائحة ثياب ابنه يوسف :
اذْهَبُوا
بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي
بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي
لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ
لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ
فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا
لَا تَعْلَمُونَ (96) .( القرآن الكريم : سورة يوسف)
وترتبط الروائح
ارتباطاً عميقاً بالمشاعر ، فالروائح الطيبة ترتبط بالحب والتقبل والانشراح
والاحتفال وجلب الحظ السعيد . أما الروائح الكريهة فترتبط بالكراهية والبغضاء
والنفور . ولعل الانتاج الأدبي للناس في مختلف الثقافات والعصور والمجتمعات قد
تجلت فيها هذه العلاقة التوأمية بين الرائحة والمشاعر ، فمثلاُ هذا هو الأعشى يصف
طيب رائحة محبوبته هريرة :
إذا تَقوم يضوع المســــــــــــــــــــــــــــــك
أصورة والزنبق الورد من
أردانها شمل
ما روضة من رياض الحِزْنِ معشبة خضراء جاد عليها مسبل هطل
يضاحك الشمس منها كوكب شِرق مؤزر بعميـــــــــــم
النبــــــــــــــــــــــــت مكتهل
يومــــــــــــــــــــــاً
بأطيب منهـا نشــــر رائحة ولا
بأحســـــــــــن منها اذ دنا الأصل
ولعله من المسلم به أن تصنيف الروائح الى
روائح حسنة او قبيحه ، عطرة أو عفنة هو تصنيف اجتماعي ثقافي بحت ، وليس له صفة
العمومية والشمول في جميع المجتمعات . فهناك مجتمعات ترى أن رائحة دهن العود مثلاً
رائحة راقية ولها قدسية معينة خاصة لدى بعض الرجال المتدينين الذين يفضلونها على
العطور الحديثة ، بينما ترى مجتمعات أخرى أن هذه الرائحة منفرة وكريهه وغريبة ،
وقد اشتكت بعض معاهد اللغة في أمريكا من أن بعض الطلاب يضعون روائح غريبة غير
مألوفة وكريهه ، وعند الاستفسار كانت هذه الروائح روائح دهن العود وهو يعتبر من أغلى
العطور في السوق السعودية وأقلها إثارة للحساسية الجلدية .
إن ارتباط الروائح بالاحكام الاجتماعية
والثقافية يجعلها أيضاً ذات تخصيصات طبقية ، وجنسية ، وعمرية . فهناك بعض العطور
وأنواع البخور تعتبر في بعض المجتمعات من العطور الخاصة بالطبقة العليا في المجتمع
، وترتبط أو تعبر عن المكانة العالية لمن يقتنيها . والعكس صحيح ، هناك روائح
تعتبر من الناحية الاجتماعية عطوراً خاصة بالطبقة العاملة او الدنيا في المجتمع ،
كروائح " الجاوني او المعمول "
في المجتمع السعودي اذا ما قورنت مع انواع البخور الكمبودي او الهندي الفاخر .
هناك أيضاً روائح
مخصصة للرجال ، وأخرى مخصصة للنساء في جميع المجتمعات تقريباً . وتميل الروائح
المخصصة للنساء الى هدوء الرائحة ، والميل الى الروائح الزهرية أو الحلوة . أما
الروائح المخصصة للرجال فهي روائح صاخبة ، ومعظمها مرتبط بروائح بعض النباتات ذات
الطبيعة الحادة . وهذه التخصيصات ليست بيولوجية الأصل وإنما هي اسقاطات ثقافية لما
يمكن أن يكون ذكورياَ وما يمكن أن يكون انثوياً في وعي المجتمع .
واذا كانت الرائحة تعبر عن التخصيص
والتفرد ، فهي أيضاً تعبر عن التماثل والتساوي والاندماج في الهوية الجماعية التي تعبر عن الجماعة كوحدة تميزها عن الجماعات الأخرى . فالرائحة
حمالة لكثير من المعاني الاجتماعية ، فالناس يعبرون بها عن هويتهم وتماثلهم
الاجتماعي في المناسبات الكبرى التي تجمعهم ، كمناسبات الزواج والافراح وقدوم
المواليد الجدد ، والاعياد الدينية وغيرها حيث يتم احراق البخور ورش الطيب كمراسيم
تساعد على اندماج الناس وارتباط ذاكرتهم الجماعية ببعضهم بعضا . ولعل هذا التجانس
الاجتماعي الذي يعبر فيه عن طريق تجانس الرائحة ، هو نفسه الذي يستخدم الرائحة
لتمييز الجماعات الهامشية او المنبوذة او غير المرغوب فيها في المجتمع . ولعل
الرائحة كانت من أهم المحددات التي تعبر عن الاسقاط العنصري على الجماعات الأخرى في نفس المجتمع .
فالجماعات المتماثلة عرقياً تميل الى الصاق روائح بعينها على الافراد والجماعات
غير المرغوبة . ففي أمريكا مثلاً يميل سكان الشمال الى وصف سكان الجنوب بأن لهم
رائحة البطاطس . كما يميل الهنود الحمر الى الصاق رائحة البيض الفاسد بالسكان
البيض . وبالمثل يميل الصينيون ابان الحرب العالمية الاولى الى وصف رائحة
اليابانيين بأنها مشابهة لرائحةالسمك المجفف
وهكذا .
الرائحة أيضاً من الناحية الاجتماعية
تخضع لطيف واسع من التنظيمات الاجتماعية من حيث التحليل او التحريم ، الكراهية او
التحبيذ حتى داخل الجماعة الواحدة تبعاً
لسلم المكانات الاجتماعية بحسب السن والجنس والحالة الزواجية وغيرها . ونظراً
لارتباط بعض الروائح في المخيلة الاجتماعية باعتبارها مثيرات جنسية ، فتقوم حولها
الكثير من الافكار وقواعد التحريم ، فمثلاً تحرم الديانة الاسلامية استخدام النساء
للعطور في الاماكن العامة . كما أن استخدام النساء للعطور الصارخة يعتبر نوعاً من
الابتذال المكروه في اماكن العمل . وفي
بعض فئات المجتمع السوداني يستخدم المتزوجون روائحاً خاصة يعتبر من العيب على غير
المتزوجين تعاطيها . كما أن هناك مجموعة من الروائح التي تعتبر روائح مكروهة في
المسجد وفي الاماكن العامة وتجمعات الناس ، كرائحة البصل والثوم ورائحة نبات
الحلبة وغيرها .
الروائح في العصر الحديث لا تستخدم فقط
على المستوى الشخصي ، وأنما دخلت الى عالم التجارة والآعمال أيضاً . وكثير من
عمليات التسويق الحديثة تعتمد على مكونات العقل الباطن للانسان وفي استخدام
المثيرات المختلفة التي تلامس هذه المكونات العميقة جداً في وعيه . فمثلاً يعمد
كثير من سماسرة بيع البيوت الى وضع روائح تحاكي رائحة الكيك والبسكويت الطازج
المخبوز تواً في الفرن ورائحة الفانيلا للتضوع في أرجاء البيت في وقت زيارة
الزبائن الذين يحضرون لرؤية المنزل بغرض شرائه ، فتعمل هذه الروائح بطريقة خفية
على جذب الزبائن ، وتحبيذ فكرة شراء المنزل لارتباط هذه الروائح بمرحلة الطفولة
وما فيها من ذكريات حلوة تتعلق برائحة الكيك والبسكويت .
واذا كنت الروائح تستخدم كعوامل جذب
وتحبيذ ، فهي أيضاً تستخدم كعوامل طرد وإبعاد . فهناك في الطبيعة كثير من أنواع
الخنافس التي تفرز رائحة نفاذة قبيحة لطرد المفترسين المحتملين عنها . كما يستخدم
الضربان سلاح الرائحة الكريهة للدفاع عن نفسه . وفي الوصايا التي تذكرها الجدات
كأسلحة ضد الاغتصاب فإن المرأة المهددة بالاغتصاب تقوم بالتبرز على نفسها وتلويث أكبر قدر ممكن من
جسدها وثيابها كمحاولة لصد المغتصب بالرائحة الكريهة للبراز . والروائح الكريهة
حتى ولو كانت طبيعية فهي منفرة وطاردة . فرائحة البخرة القبيحة المنبعثة مع
النَفَس لدى بعض الناس يمكن أن تكون عاملاً من عوامل النفور وطلب الطلاق أحياناً
كما في قصة الخليفة الأموي عبدالملك بن
مروان وقد كان ذا بخرة كريهة أبعدت عنه النساء .
بعض الروائح لها طبيعة تسبب الادمان ، فرائحة النيكوتين في التبغ باشكاله
وأنواعه هي رائحة تساعد المدخن على الادمان ، وعلى طلب المزيد من هذه الرائحة التي
تتخلل الرئتين والانف . كما أن بعض الروائح لها قدرة على إرجاع الوعي في حالة
الاغماء ، وكذلك في حالة الصرع . فكثيراً ما يتم تبليل قطعة من القطن بأنواع
الكحول ذات الرائحة النفاذة أو بالنشادر وتقريبها من أنف المصروع ليخفف من وطأة
الأزمة ويبدأ بالعودة التدريجية الى وضعه الطبيعي.
وتحتفي الذاكرة الشعبية في منطقة
عنيزة ( وسط السعودية ) بكثير من المآثر التي تحتفي بالرائحة الطيبة ، وهذا الشاعر
المجيد محمد بن عبدالله القاضي يصف القهوة العربية ورائحتها الرائعة بهذه الابيات
( باللهجة المحلية لعنيزة) :
دنيت
لك من غالي البن مالاقْ
بالكف نافيها عن العذف منسوقْ
احمس
ثلاث يانديمني على ساق
ريحه على جمر الغضا يفضح السوقْ
خله
يفوح وراعي الكيف يشتاقْ
الى طفح له جوهر صحّ له ذوق
مع
زعفران والشمطري الى انساق
والعنبر الغالي على الطاق مطبوق
فلى
اجتمع هذا وهذا بتفياقْ
صبّه كفيت العوق عن كل مخلوقْ
بفنجال
صين زاهي عند الارماق
يغضي بكرسيه كما اغضاي غرنوق
_________________________________
دنيت
= قربت، العذف = الردئ ، منسوق = مستخلص منه الحبات الرديئة وغير الجيدة. أحمس:
بمعنى قم بتحميص ، ثلاث : أي ثلاث تحميصات نظراً لأن المحمصة صغيرة الحجم ولا
تحتمل الا تحميصة واحدة . على ساق : على التوالي بعضها يلي بعض. يفضح السوق : أي
تنتشر رائحته في السوق . خله : اتركه أو دعه . إلى : إذا / طفح له جوهر : إي إذا
ابتدأ بالغليان أصبح مذاقه صحيح وطيب .
الشمطري : نبات حسن الراحة . الى
انساق : إذا تمت إضافته للقهوة . على الطاق مطبوق : تعبير يقصد به من الحسن الى
الاحسن . فلى : فإذا ، بتفياق : باتفاق وانسجام
. صبه : فعل امر : اسكب القهوة ، كفيت العوق عن كل مخلوق : دعاء يقصد به
كفاك الله شر الاعاقة ولا احوجك الله لأي مخلوق في الخدمة . بفنجال : بفنجان قهوة
: وقد جرى أهل عنيزة على قلب نون الفنجان الى لام . صين زاهي : فنجان جميل الصنعة
. عند الارماق : عندما ترمقه إي تنظر اليه . يغضي بكرسيه : يحرك عينة في حركة
الاغضاء ، كما اغضاي غرنوق : الغرنوق طائر أبيض من الطيور المهاجرة ذا عينين
صافيتين براقتين ، فكأنه يشبه صفاء القهوة في فنجانها الزاهي بصحن عين الغنوق .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق