فلسفة التاو الصينية في علاقتها بالإرث الفلسفي الأوربي والفيزياء الغربية
الحديثه
د. فاطمة بنت عبدالله ابراهيم الســـــليم
حَجَبتْ المركزية الاوربية Eurocentrism الإسهامات الكبرى التي
قدمتها الحضارات الشرقية للفكر الانساني عامة وللفكر الاوربي خاصة[1]
. واستمر التغييب الكامل لهذه الاسهامات حتى البدايات الاولى لعقد السبعينيات من
القرن الماضي . وقد نجحت حركة مابعد الحداثة Postmodernismكحركة
فكرية نقدية تصحيحية جادّة للفكر الاوربي بجميع روافده في تقديم بعض هذه الاسهامات
وإلقاء الضوء عليها وإن كان قد حدث هذا على خجلٍ واستحياء . فما زالت الكثرة
الغالبة من كتب العلم والأدب والفن والتاريخ التي تتداول في أمريكا اليوم تنهج
منهج التمركز الأوربي كنوع من التمركز الاثني Ethnocentrism والذي يؤكد عن سبق اصرار في بعض الحالات ، أو
عن جهلٍ - في حالات أخرى - أو سيراً على التقاليد الاكاديمية أو الأدبية المرعية
والتي أعتبرت هذا التغييب جزء من التراث الفكري الذي تم ترسيخه بصلابة وبقوة منذ
عصر النهضة ثم عصر التنوير في التاريخ الفكري الاوربي وظل امتداده واضحاً إلى
اليوم ، أي ما يقارب الستة قرونٍ من الزمان.
الأسس
الفلسفية الصينية الأولى – ما قبل التاوية- التي اختطها وأرساها الصينيون في ردح
من التاريخ يتجاوز القرن الثاني عشر قبل الميلاد كانت – ومازالت- المهاد الأول والأساس
لكثيرٌ من المناهج الفلسفية التي تبناها اليونانيون بعد ذلك ، ثم مرت بموت معرفي طوال قرون حتى اكتشفها العرب ونقلوها بعد تنظيفها ومراجعتها وتأصيلها
والاضافة اليها الى اوربا في بدايات عصر النهضة الأوربية . ما حدث بعد ذلك ، هو أن
اوربا الناهضة قد أرست مشروعها النهضوي
على وعيٍ عميق ومتجذر بالهوية [2]،
وحيث لم تخبر أوربا طوال تاريخها أي مراكز للاشعاع الحضاري " الأوربي" غير الحضارتين اليونانية
والرومانية ، فقد اعتبرت أوربا هاتين الحضارتين هما الأم المولّدة لجميع الخصائص والتراث الحضاري لأوربا الناهضة من
جديد . وهكذا أرجعت أوربا رمّةَ تاريخها
الفكري ومناهجها الفلسفية إلى اليونانيين
فقط جاحدة ًوعامدةً إغفال وتغييب جميع ما
ساهمت به الحضارات الأخرى في صنع الحضارة والفلسفة اليونانية نفسها ، حتى لتبدو
الحضارة اليونانية وكأنها كانت من صنع نفسها فقط ، بل تجاوز بعض المؤلفين من غلاة
التمركز الاوربي الى اعتبار الحضارة والفلسفة اليونانية طفرة عبقرية فريدة في التاريخ
الانساني ، وهي بذلك عملية تاريخية فريدة وخاصة ، ومقطوعة الجذور ومتجاوزة تجاوزاً
تاماً لكل ما يمت الى الاحتكاك الثقافي والاقتباس المتبادل بين الأمم كحقيقة واقعة
يثبتها التاريخ الانساني اذا نُظر اليه نظرة مجردةً تتخلص من الهوى والتحيز
والاسقاط.
في حين أن الحديث عن الفلسفة الصينية – والفلسفة
التاوية جزء منها فقط- يستغرق كتباً كاملة ، إلا أن هذا المقال يستهدف تقديم فكرة
عامة ومختصرة عن هذا الرافد الفلسفي الثري من روافد التراث الفكري الانساني . ويحاول هذا
المقال التركيز على المقولات الرئيسية لهذه الفلسفة مع التعريج – بما يسمح فيه
المجال- على الروافد الفلسفية المتفرعة او المرتبطة بهذه المقولات الرئيسية . ثم
بعد ذلك يمكن إلقاء الضوء على تأثير هذه الفلسفة على الفلسفة اليونانية في فكر
هيروقليتوس وبارمنديس وافلاطون وارسطو وطالوس ، ثم تأثيرها على الفلسفة الأوربية
الحديثة كما في فكر هيجل ونيتشه وهيدجر
وشوبنهاور وكارل ماركس وكارل بوبر وغيرهم . ثم نصل الى خاتمة المقال بتقديم أوجه
العلاقة بين الفلسفة التاوية وفيرياء الكم الحديثة[3]
Quantum Physics.
وإن كان من العسير تاريخياً تحديد التاريخ
الفعلي الذي ظهرت فيه هذه الفلسفة ، الا أنه يمكن القول بأن فلسفة التّاوTaoism الصينية ترجع الى فترة ما بين القرنين الرابع
والسادس قبل الميلاد ، ويعتقد آخرون أن هذه الفلسفة قد نشأت قبل هذا التاريخ ،
ولكن ما توضحه المراجع المختلفة هو إرجاع كتاب " التاو" الى أسرة "
هان Han الملكية" التي قامت بتوحيد
المدارس الفلسفية المختلفة في مدرسة واحدة تدعم شرعية الأسرة الملكية وحكمها
المركزي للصين في ذلك الزمن .
ولعله
من المعلوم أن الفلسفة التاوية Taoismليست ديانة ، وإنما هي منهج فكري
كلي موجه Worldview ، وهي نظام للتفكير ولرؤية العالم والكون والأحياء
والانسان والاشياء وجميع الموجودات في الطبيعة في منظومة واحدة تنتظم في كلية
واحدة من اتحاد الأضداد المتساوية والتي توجد في حركة دائمة من الانسياب والجريانFlow والتدفق عبر الزمن . كما تشمل فكرة اتحاد
الأضداد Unity of Opposites الأحياء والجماد وما وراء الطبيعة وعالم الأرواح والمغيبات وغيرها من
النشاطات التي تجمعها وحدة الكل في حركة دورية مستمرة إلى الأزل . وتحتوي التاوية
باعتبارها منهج للتفكير يفسر الوحدة والحركة والتغير في آن واحد تحتوي على عدد من
الفروع الفكرية المرتبطة بها تاريخياً كالفلسفة الكنفوشية ، والطرق الشامانية (
الطب الصيني الشعبي القديم) ، وبعض من روافد عبادة الامبراطور كمظهر من المظاهر
السياسية لهذه الفلسفة ، والين واليانج (
اتحاد السالب والموجب) ، والفنون الزواجية على المستوى الاجتماعي ، وكثير من
الفلسفات الفرعية التي تركز على مساعدة الانسان لنفسه ، وعلى اتقان فن الاستبطان
كطريقة في التفكير واكتشاف الذات ، وعلى عدد من التعليمات المتعلقة بالادارة وفن
العلاقات العامة .
The Yin and
Yang Diagram (T’ai-chi Tue) Symbolizes the Supreme Ultimate of Cyclical Unity
and Change.

إتحاد
الأضداد يرمز له بالدائرة التاوية المشهورة T’ai-chi Tu أو
دائرة الين واليانج ، والتي تحتوي على نصفين متعادلين تماماً من حيث المساحة (
يشبهان شكل السمكة) ، نصف أبيض بعين سوداء( اليانج) بينما يمثل الين النصف الأسود بعين بيضاء . هذان النصفان
متداخلان في حركة دورية متغيرة ومتدفقة
الى الأبد . إن مبدأ الوحدة الكلية الشاملة الذي هو أصل الأشياء في
التاو ، لا يمكن أن يتحقق الاّ من خلال وجود التكامل والتوازن بين قطبيه الرئيسيين
المتضادين : اليانج Yang الموجب ، والين Yin السالب .
وعندما يتعادل الين واليانج تصبح الأشياء جيده ، يكون هناك سلام ، وخير ،
وتتحقق صحة الجسد والنفس ، وعندما يختل التوازن والتكامل بين هذين القطبين يحدث
الصراع والشقاق والمرض والحزن والشقاء والجوع وينتشر النزاع وتعم المشاكل[4].
ومن هنا فإن أي ظاهرة في الوجود ليست الا تجلياً لمبدأ التاو الذي يوازن بين قطبين
نقيظين. ويمثل اليانج عدة نواح منها :
الذكوره ، الشمس ، الضوء ، الإبداع ، الحرارة ، السيطرة ، السماء ، والفعل ، والجنوب
. أما الين فيمثل نواح مناقضة لليانج منها : الأنوثه ، الأرض ، الخضوع ، القمر ،
الكمال ، البروده ، الظلمه ، والشمال[5]
. وهكذا ، فإن الين واليانج متكاملان ومتضادان في نفس الوقت ، ووجود أحدهما في
حالة ما ملزم لوجود الحالة المناقضة بل هو شرط رئيسي لها : فالظلمة لا توجد من غير نور ، ومن غير البرودة
لا نعرف بأن هناك حرارة ، كما أنه لا معنى لوجود الشمال بدون أن يكون هناك جنوب ،
لا صيف بدون شتاء ، ولا سماء بدون أرض ولا حياة بدون موت .
ومن الغني
عن القول أن هذا التصور الفلسفي لعلاقة الأضداد ببعضها يعتبر هو الأساس المبكر
جداً لعملية تعريف المفاهيم في المنهج العلمي الحديث ،
والذي ابتدأ تاريخياً بمجهودات العلماء العرب والمسلمين ابان عصر الحضارة
الاسلامية ، واستخدم فيه مبدأ "قياس المفهوم" ورسم تصورٍ للحدود التي تبدأ منها وتنتهي بها
خواص كل مفهوم كما هو الحال الآن في تعريف
المفاهيم الذي يقوم عليه بناء النظرية العلمية وافتراضاتها الرئيسية في العلوم
الحديثة جميعها The
conceptualization of the properties of each concept ، فمفهوم الحرية مثلاً يبدأ من الحدود التي
تنتهي عندها حدود مفهوم العبودية ، ومفهوم العدالة يبدأ من حيث ينتهي الظلم . ويتم
في العادة وضع المفهوم المراد تعريفة في وضعية التضاد المحتمل للمفهوم المراد تعريفه ، وهكذا .
وتفاعل الين واليانج في تكامل وتناقض هو
الأساس في إنتاج الطاقة والتي هي أصل الحركة ،
كما أن اليانج ليس دائما يانج ، فقد يتحول اليانج الى ين ، والين الى يانج
، كما أن كل منهما ينتج الآخر ، وتَحدث التغيرات في كل من الين واليانج بشكل دوري
ومستمر بشكل سرمدي الى الأبد[6].
ومن هنا فليس معنى الين واليانج أن أحدهما تابع للآخر ، أو أن أحدهما أصل للآخر ،
كما أن لا أفضلية لواحد منهما على الآخر ، فسرّ الوجود كله يكمن في وجودهما معاً
في سيرورة وجودية واحدة ، وفي حالة يتأيّن (يحدث في ذات الآن) فيها التناقض مع
التكامل[7]
. ومن هنا تتشكل في المنظور الصيني كلّ أشكال الحياة والظواهر ، وتتغير الظواهر
تبعا لتغير الطاقة الداخلية الناتجة من تفاعل اليانج والين[8]
. ومن حيث أنّ كلٌ منهما منتج للآخر ، فإن كل ظاهرة في الوجود تحمل في داخلها
نفسها ونقيضها في نفس الوقت ، ففي المرض توجد الصحة ، وفي الصحة توجد بذور المرض ،
وفي الحرب توجد بذور السلام وفي السلام توجد بذور الحرب .. ويعتمد الميل الى أي
منهما تبعا لعمل الطاقة الداخلي وتغلُّب أي من الين أو اليانج . لا يوجد ظاهرة في الوجود تنعتق من مبدأ التاو
هذا ، وهو ما يطلق عليه " قانون
الحضور في الغياب Presence in absence" .
وتتكون فلسفة التاو أو " الدّاو" كما
تنطق أحياناً من كتاب التغير " آي تشنج" ، ويتضمن هذا الكتاب شرحا
للمبادىء الأساسية للتغير كمبدأ أزلي يشرح التغير الذي يحدث على مستوى الكون ، والدول
، والأشياء ، حيث يُقصد بكلمة " تاو" الطريقة أو المنهج" الذي يُستدل
به على " الوحدة الكلية المطلقة " للوجود " ، وهذه الوحدة الكلية
تشمل كل الموجودات ابتداء من المجرات السماوية ، إلى الكواكب والنجوم وصولا إلى
خلق الإنسان نفسه . وتؤكد فلسفة التاو على أن مبدأ الوحدة الكلية الشاملة هو
المبدأ الرئيس الذي يُفسر ليس خلق الأشياء وابتداءها فقط ، وانما طريقة تغيّرها
عبر الزمن . هذا " التاو" أو مبدأ الوحدة الكلية الذي يفسر النشوء
والتغير هو مبدأ أكبر من أن يدركه العقل الانساني المجرد الذي يختص بملاحظة
الظواهر باستخدام الحواس الخمس فقط ، ويستطيع بذلك إدراك ماهياتها وسماتها
الخارجية فقط دون أن يستطيع الولوج الى الكُنْه والماهية الباطنية والجوهر[9]
. ولسد هذا القصور ، أصبح هناك حاجة الى تدريب العقل الباطن ، وقوى الاستبطان
والتأمل ، والايمان بالحدس الذي يُمكّن الإنسان من الفهم دون تجربة حسية ، ومن هنا
اندغمت في تعاليم التاوية الصينية بعض الفلسفات الشرقية الأخرى ، كفلسفة الزن Zen Buddhism البوذية الهنديه[10]
، وبعض الطقوس الكنفوشيوسية القديمه والتي تؤكد على أهمية التدريب على الإستبطان
والنظر الداخلي من أجل تدريب العقل الباطن على الفهم والإدراك .
وتؤمن الفلسفة التاوية بمبدأ دورية الزمنFlow of Time Cyclical ، وتعني
دورية الزمن التاوية ، إن كل شيىء في الوجود يمرّ بدورة كاملة تبدأ بالنشوء ثم
الميلاد ثم الطفولة والشباب ، حتى تصل الى مرحلة النضج والقوة القصوى ثم تبدأ
بالأفول والإنحلال إلى أن تصل الى مرحلة الموت . ثم تبدأ من أشلاء هذه الدورة دورة
أخرى تحمل بذور ازدهارها ودمارها معاً في آن واحد . هذه الدورات تمت ملاحظتها من
قبل الفلاسفة الصينيون القدماء في دورة اليوم الواحد ، وفي دورة المواسم السنوية ،
وفي دورة الطبيعة في الاخصاب والانبات ثم الازدهار ثم الذبول فالموت ، وهكذا . هذا
التصور الصيني المبكر لدورة الزمن وتدفقه عبر سيل من الأحداث على شكل دوائر
متعاقبة يسير من الناحية المنطقية بعكس التصور الخطي الصاعد من نقطة محددة كما في
الثقافتين الاسلامية والأوربية الحديثة .
ولعله من الشائع الى حد اليقين لدى كثير من
الذين تلقوا تعليمهم في الجامعات الامريكية او الأوربية أرجاع المقولة الشهيرة
" لا يمكنك أن تسبح في ماء النهر مرتين ، كل شيىء يجري مرة واحدة" للفيلسوف الأغريقي هيروكليتوس ، بينما في
الحقيقة أن هذه حكمة تاوية الأصل وترجع في أصولها إلى الأب المؤسس للتاوية Lao-Tsu وهو الذي يعتقد بأنه كتب
النظرية السياسية في كتاب التغير التاوي ، وإليه ترجع المقولة التي تعلمناها منذ
الصفوف الأولى في المدرسة وهي أن " مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة "
.
هذا
التصور الفلسفي المنهجي العميق الذي تقدمه الفلسفة التاوية يمتد إلى تخوم النظريات
السياسية المعاصرة . ففي حين نشأت التاوية في عهد حكم أسرة هان الصينية ، فقد طورت
منظوراً اخلاقياً لما يجب أن يكون عليه القائد أو الحاكم الناجح . ففي كل دولة
يوجد مؤيدين كما يوجد خصوم وأعداء . والحاكم الناجح يجب أن يكون حكيماً بحيث يقوم
بموازنة الأضداد في كلية واحدة ، وأن ينتبه للعوامل التي تجعل من بعض الجماعات (
يانج ) وبعضها الآخر ( ين) ، كما ينتبه الى الكيفية التي تتبادل فيها هذه الجماعات
الأدوار عبر الزمن . وكما تذكر التاوية فإن أفضل نموذج للحاكم الناجح هو ذلك
الحاكم الذي يحكم بخفية ، أي أن يجعل الناس يعتقدون بأنهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم ،
وبدون أن يُشعر الناس بأنه هو الحاكم الفعلي صاحب القرار الأعلى فيهم.
مبدأ
التوافق مع اتجاه التدفق أو المشي مع التيار Flow كان أحد المفاهيم الرئيسية التي بنيت عليها الفلسفة الصينية
التاوية ، وبالأخص ما يطلق عليه " عدم الفعل " Wu-Wei
= non action .
ويعني هذا المبدأ أن الشخص يجب الا يتدخل في مسار الأمور فيرغمها على السير في غير
مسارها ، كما أن عليه الا يقاوم الأحداث ويتحداها ، وإنما عليه أن ينتظر الوقت
المناسب للفعل . وتأتي هذه الحكمة مبنية على مبدأ التوازن التاوي بين السالب
والموجب ، وبأن التوازن بين الأثنين يجب أن يظل محفوظاً ، وبأن أي تغيير يجب الا
يتم بشكل راديكالي مفاجىء وإنما بشكل تدريجي بانتظار اللحظة المناسبة في توقيت
التوازن بين المتضادات . ولا شك بأن منطق " عدم الفعل " او المشي مع
التيار هو فلسفة انعكاسية للثقافة الزراعية المهيمنة في الصين على مر العصور.
فمثلاً زراعة المحاصيل في غير وقتها – في الشتاء مثلاً - يعتبر فعلاً ضد التيار،
ولن تؤتي النباتات أكلها ما لم يتم الفعل موقوتاً مع دورة الزمن . تعكس هذه
الفلسفة أيضاً منظوراً محافظاً من الناحية السياسية ، حيث يحث على التطابق
والتماهي والمسايرة ، كما يتمسك بالايقاع البطىء للحياة الزراعية القائم على التريث والانتظار والصبر ومسايرة
الطبيعة وليس معاكستها ، كما يتمسك بالاستقرار الذي يعتبر حجر الزاوية قي أي انتاج
حضاري متميز.
فكرة
السير مع التيار طورها المفكر التاوي Chuang-tsu
لتأخذ منحىً اقتصادياً بعد ذلك ولتعني أن يغمس الانسان نفسه في النشاط أو العمل
حتى يفقد وعيه بذاته أو بمرور الزمن . هذا
الانغماس يوصل الى حالة من الوصول إلى السعادة حينما يتم مواجهة سلسلة من التحديات
السالبة ( ين) من أجل إنتاج عددٍ موازٍ من الاحرازات أو النتائج الموجبة ( يانج) .
وهذا ما يفسر مثابرة رجال الأعمال أو أصحاب المهن المختلفة على إدمان العمل
والانغماس فيه إلى حدود نسيان الذات . وفي العصر الحاضر – بعد الانتشار الواسع
للفلسفة التاوية في امريكا- يفسر هذا إدمان الرياضيين والفنانين على وجه الخصوص
على التدريب المتواصل من أجل الوصول الى السعادة التي تتحقق في التغلب على
التحديات وبتحقيق الفوز .
أسئلة للتفكير
1)- ماهي
التطبيقات المحتملة لفلسفة التاو الصينية – وهذا مجرد افتراض- وخاصة من ناحية التركيز على مبدأ التساوي
الكامل بين اليانج والين ودورهما في انتاج الطاقة والحركة على الحياة الاجتماعية
لأي مجتمع افتراضي؟ أين يمكن موضعة المؤسسات الاجتماعية كمؤسسة الزواج ، ومؤسسة
الأسرة ، ومؤسسة الدولة ، ومؤسسة الجيش ، ومؤسسات العمل البيروقراطي ، ومؤسسات
المجتمع المحلي في منظور هذه الفلسفة؟ وأي المجتمعات الانسانية الحالية ( بالنظر
تحديداً الى المجتمع الامريكي والمجتمع العربي) أقرب من الناحية الواقعية إلى
المقولات الرئيسية لهذه الفلسفة؟
2)- بافتراض
أن " اليانج " يرمز الى الموجب ، والين يرمز إلى السالب ، أين يمكن
موضعة هذه الفلسفة بالنظر إلى الواقع
الاجتماعي لبعض مجتمعات العالم الثالث وخاصة في أفريقيا والهند وبعض بلدان جنوب
آسيا وفي تاريخ الصين نفسها قبل الثورة
الثقافية التي قام بها ماو تسي تونج ، هذه المجتمعات التي ما يزال ينتشر فيها
صوراً كثيرة من صور عدم العدالة الاجتماعية ؟ وكيف يمكن التنظير للتراتبية الاجتماعية وعلاقات
القوة والسيطرة Power and Authority Relationships من خلال تطبيق مفهوم
العلاقة الجدلية بين الين واليانغ؟
3)- كيف يمكن الأخذ بمقولات " الصنعة الاجتماعية
Social
Construction " في نظريات ما بعد الحداثة في
تطبيقاتها المختلفة من خلال منطق التغير في الين واليانج ، حيث يصبح الين يانغ
واليانغ يناً كما ذكرت هذه الفلسفة؟
4)- ما أوجه الاختلاف والاتفاق بين الفلسفة التاوية
في تأكيدها على الوحدة والمساواة من خلال
الاختلاف والتضاد بينها وبين النظريات السياسية الاسلامية ؟ أو النظريات الوحدوية
في تفكير أفلاطون ؟ وما علاقة هذه الفلسفة بالنظام الديموقراطي الغربي في الوقت
الحاضر؟
5)- إلى أي مدى تتعارض – أو تتفق- هذه الفلسفة
التاوية في مقولاتها الرئيسية مع بعض النظريات السلوكية في العلوم الاجتماعية ،
وخاصة مع نظريات السلوك الميكانيكي في علم النفس كما في مدرسة التحليل النفسي عند
سيجموند فرويد ، وإلى أي مدى تتعارض – أو تتفق - هذه الفلسفة مع النظريات الفوضوية
في علم الاجتماع السياسي ؟ بمعنى أدق : أين يمكن وضع احتمالات النسبية الاجتماعية ونظريات
السلوك الارادي العقلاني ، ونظريات السلوك الحتمي خاصة وأن هذه الفلسفة تراوح بين
مستويين من التحليل ، وهما المستوى الفردي ذو المدى الضيق ، والمستوى العام واسع المدى الى
أبعد الحدود وهو مستوى المجتمعات والكون وحركة الحياة في ذات الوقت؟
6)- كيف يمكن تفسير مبدأ التدفق أو السير مع التيار
الذي طوره تشانج تسو في تأثيره على أخلاق العمل في المجتمع الصيني عموما وعلى المجتمع الياباني الحديث
وخاصة بالنظر الى انتشار فلسفة الزن البوذية والمتأثرة إلى حد كبير بفلسفة التاو
الصينية ؟
7)- ما علاقة المتضادات الثنائية Binary
Oppositions في
الفلسفة التاوية بالمتضادات الثنائية في الفكر الأوربي الحديث وخاصة في علم السكان ، وعلم البيولوجيا ، وعلم
وظائف الاعصاب ، وفي طيف واسع من الانتاج الثقافي والفكري ، كعلم الاجتماع ، وعلم اللغويات
، والانثروبولوجيا وعلم النفس وفي كثير من الفنون التي لا يسع المجال لذكرها هنا ؟
وإلى اللقاء في الجزء الثاني.
د. فاطمة عبدالله السليم .
[1] تمخض هذا المقال بعد منافشات طويلة جرت بيني
وبين الدكتور أحمد الأسود في أحد الامسيات ، والدكتور أحمد - كما هو معروف- قامة
شاهقة ورفيعة المقام في الفكر والثقافة
والعلم . وبما أنه عاَلِم Scientist قبل أن
يكون مثقف ، وتقف بينه وبين العلوم
الاجتماعية مسافة أكاديمية فقد
أعطاني هذا مدخلاً واسعاً لمحاورته
ومقارعته بالحجج ، ولا أجحد هنا مساهمته
الثرة في إثراء معرفتي بفيزياء الكوانتم في الجزء الثاني من هذا المقال .
[2] الوعي المتأصل بالهوية يعتبر هو اللبنة الأولى
في أي مشروع حضاري نهضوي لأي أمة كانت . البدأ اولاً بمعرفة الذات واكتشافها ،
ومعرفة أوجه القوة والقصور فيها ، والعودة الى تأصيل ومراجعة التراث ليس لاعادة
العيش فيه وبه مرة أخرى فاتاريخ لا يعيد
نفسه ولكن من أجل استلهامه وجعله قاعدة حضارية ينطلق منها المشروع الحضاري لأي أمة
تريد بناء حضارتها الخاصة بها .
[3] هذا المقال هو محاولة متواضعة لتطعيم المعرفة
العامة من خلال الاطلاع على الاسهامات الثرة التي قدمها الفكر الانساني بعامة ، والفكر الشرقي خاصة ً ، وهو محاولة للخروج من
ركن المعرفة الاوربية المحصورة في
المجالات العلمية البحته وللابحار قليلاً في بعض المعطيات الفلسفية التي تثير
الدهشة حقاً وتدعو إلى إعادة التفكير أو نقض بعض القناعات القديمة في بعض الأحيان.
أنا أؤمن كثيراً وشخصياً بأهمية الانفتاح على مختلف المشارب الفكرية ، وبأن اعتناق
الانسان لمبدأ فلسفي معين أو موقف فكري واحد لا يقبل التغيير او الاستبدال أو
النقاش أو الجدل لهو نوع من الموت الفكري الذي يفضي إلى خلق نموذج من إحادية
التفكير أو ما يسميه هربرت ماركوز "
الانسان ذو الاتجاه " البُعْد الواحد في كتابه عن الانسان ذو البُعد الواحد : Herbert Marcuse : One Dimensional Man .
Studies in the Ideology of the Advanced Industrial Society.
4 يورد Chris
Bainbridge المثال التالي على وحدة التكامل من خلال التضاد
، فيقول : إنه لو تَمّ تصور مجتمع ما يتكون من الذكور فقط ( اليانج) بدون إناث (
ين) فيعني هذا انقراض المجتمع لا محالة لأنه في هذا الحال لن يستطيع المجتمع تجديد
نفسه من خلال الانسال الطبيعي ، وسيكون هذا المجتمع مختلاً في توازنه ويعاني من
مشاكل خطيرة تنتج عن عدم توزان اليانغ مع الين في تفاعل دوري متدفق عبر الزمن ،
وهذا المثال في رأي Bainbridge لا ينطبق على المجتمع
الانساني فقط وانما على جميع الاحياء من الحيوان والنبات أيضاً .
[5] يلزم التذكير هنا بأن تعريف اليانج على أنه
الذكورة ، والين على أنه الأنوثة واعتبارهما قطبان متضادان تمام التضاد لا يتفق مع
الاكتشافات العلمية الحديثة التي تؤكد أن الرجل والمرأة يتكون جسديهما من 24
كروموزوم ، 23 منها متطابقة ومتماثلة تماماً في كل من الذكر والانثى ، وأن الفرق والاختلاف
بينهما يأتي من الكرموزوم الرابع والعشرين وهو كرموزوم الفروق الجنسية الذي يمايز
بين الذكر والانثى ، أي بمعنى أن هذا التفارق يقع بنسبة 1/ 24 ، وهو تفارق من خلال
التكامل أيضاً من الناحية البيولوجية البحته . وهذا يدحض بالحجج العلمية مقولة أن
الفروق بين الذكور والاناث أكبر من الجوانب المشتركة بينهما على الصعيد البيولوجي
، حيث تعمد بعض الثقافات إلى تصوير هذه الفروق على أنها فروق مطلقة ، ويتم التركيز
على أوجه الاختلاف لا التشابه أو التطابق من الناحية الانسانية ، فتتصوربعض
الثقافات خاصة الثقافات التقليدية التي ما زالت تتمسك بأفكار غير علمية مستمدة من تاريخ طويل من المعرفة
الانطباعية أو المعرفة الميتافيزيقية غير
العلمية تتصور النساء وكأنهن من فصيلة غير انسانية أو ربما قد هبطن على الأرض من
كوكب آخر.
[6] يشكل هذا الاتجاه الذي يتجاوز عن مسألة الأصل
الى الطبيعة التكاملية الدورية ذات الطابع الاجتماعي /الثقافي رافداً فكرياً ضخماً
في بعض المدارس النسوية الحديثة Feminist New-Construction
Approaches وهي تؤمن بفكرة البناء الاجتماعي الثقافي لسمات
الذكورة والانوثة وليس الاعتماد على الفروق البيولوجية في أي مجتمع ، فمسألة الذكورة والانوثة هي صفات
اجتماعية وثقافية تُسبغ على الجنسين ويتم تشربها اثناء عملية التنشئة الاجتماعية
للاطفال وليست بالضرورة محددات بيولوجية او معتمده على هذه المحددات . هذه المدرسة
لها روافد نظرية وبحثية عميقة وخاصة في علم الانثروبولوجيا الثقافية ، وهي تعتمد
على التراث الذي اسسته مارجريت ميد في ثلاثينيات القرن الماضي.
[7] يمكن لمس هذه االجذور المبكرة جداً في الفكر
الصيني التاوي للافتراضات المبكرة لعدم ثبات الحقيقة ، أو عدم وجود حقيقة مطلقة
للاشياء كما وردت مؤخراً في فكر نيتشه وشوبنهاور وديكارت ومفكري ما بعد الحداثة على
العموم وفي النظريات النسوية في الفكر الاوربي والامريكي في العقدين المتأخرين من
القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين.
[8] أنظر في هذا المجال علاقة الفلسفة التاوية
بنظريات تكوين الهوية في الفكر الفلسفي الاوربي المتأخر ، وفي النظريات السياسية
على العموم .
[9] أنظر إلى هذا الوعي الصيني المبكر لأوجه القصور
في المعرفة العلمية باستخدام المنهج العلمي المعاصر والتي تعتمد على التجربة
المباشرة باستخدام الحواس الخمس ، وانظر أيضاً إلى مدى التطابق بين الفلسفة
التاوية في هذا الجانب مع فلسفة كانت Kant في نقد االمعرفة العلمية المستخلصة من تطبيق المنهج العلمي على الظواهر
المختلفة .
[10] سنأتي في موضع لاحق – إن شاء الله - الى إضاءة
فلسفة الزن البوذية كفلسفة وليس كديانة وسننظر إلى أوجه تأثير الفلسفة التاوية
والفلسفة الكنفوشيوسية علي المقولات الرئيسية لهذه الفلسفة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق