قارورة ماء
د. فاطمة بنت عبدالله السليم[1]
حضرت مساء يوم الخميس الى قاعة
الاجتماعات الملحقة بمكتب مساعد الملحق للشؤون الاكاديمية في الدور الرابع بعد الوقت المحدد لانعقاد أحد اللجان بدقائق
قليلة ، وكنتُ قبل ذلك أُغِذُّ السيرَ واستعجلُ خطواتي صاعدة الى الدرج المفضي الى
الدور الرابع أحسبُ أني تأخرتُ عن الموعد . لكنني دهشت حين اكتشفت بأنني القادمة
الاولى الى المكان ، وبأن الطاولة الممتدة في وسط القاعة كانت خالية تماماً إلا من
الدكتور فريد اوانس منسق اللجنة ، وما هي الا برهة حتى دلف المهندس تركي التميمي
المسؤول عن البوابة الالكترونية . كان الدكتور فريد منشغلاً بتوزيع وترتيب رزم من
الاوراق أمام كرسي كل عضو قد استقر مكانه على أحد جوانب الطاولة ، ثم قام الى
مصفوفة كبيرة من قوارير الماء الصغيرة ليوزعها واحدة واحدة أمام كل عضو من أعضاء
اللجنة .
تذكرت في تلك اللحظة أنني عشتُ ردحاً من الزمن في أمريكا غابت فيه عن حياتي
اليومية كلياً ثقافة شرب الماء المعبأ في قوارير البلاستيك ، وكنت قد نسيتها
تماماً بعد مغادرتي أرض الوطن واندماجي في جو الدراسة هنا كمبتعثة في الجامعة . في
ذلك الزمن ، كنت حين أشعر بالظمأ ، ألجأ كما يلجأ جميع زملائي وزميلاتي من
الأمريكيين وغيرهم الى الشرب من الماء البارد الذي توفره الجامعة في النوافير
الكهربائية Water fountain
المنتشرة في ارجاء الجامعة أو نشتري
عصير فواكه طازجة من أحد مطاعم الجامعة . شرب الماء المعبأ بقوارير من البلاستيك
بأحجام وأشكال مختلفة هو لا شك ثقافة سعودية بحته ، أملته من جانب الظروف المناخية
هناك من اشتداد الحرارة معظم النهار ، وقيظ الصحراء اللاهب ، وسطوع الشمس أغلب أيام العام ، حيث
تتَوَائَم هذه القوارير مع حاجة المستهلك الى مصدر دائم ومتوفر للماء يحمله معه أينما
راح أو جاء . ومن جانبٍ آخر ، فإن الماء المعبأ في قوارير بلاستيكية هو أحد وجوه
ثقافتنا الاستهلاكية بامتياز ، فبرغم أن الدولة قد وفرت الماء النظيف الصالح للشرب
بدون ثمن في جميع المرافق العامة والخاصة ، الا أننا نصر أن يكون للماء ثمن يدفع
بالدراهم لكي يكون له قيمة استهلاكية ترتفع مع ارتفاع الحاجة إليه في المواسم
والمناسبات . ينضاف الى ذلك عامل مهم وهو عدم ثقة المستهلك بماء المدينة العام في
أغلب مدن المملكة ، حيث يندر أن يُستخدم ماء الصنابير مباشرة للشرب رغم صفاءه
ونقاءه وملائمته للاستخدام الآدمي من حيث الخلو من الجراثيم وتوازن نسب الاملاح
فيه .
الماء من أعجب الأشياء في الطبيعة وأكثرها غرابة . أعتيادنا الطويل والمستمر على الماء منذ أيام الطفولة
الأولى جعلنا نتوقف تماماً عن الدهشة والانبهار بالماء . الأطفال – كل الاطفال في
العالم – يخبرون هذا التعلق العجيب بالماء والانبهار بسيولته وقوامه الغريب . أذكر
أنني حينما كنت طفلة ، كنت أغمس يداي الصغيرتان في ساقية الماء الجاري ، أو أضع
يداي تحت صنبور الماء المتدفق ، كما كنت أطيل النظر باندهاش تخالطه لذة لملامسة هذا
السائل العجيب ، وأنظر بعجب أكثر الى لمعانه في الجداول ، والى انعكاس صورتي
المترجرجة على سطح مستنقعات الماء التي يتركها المطر. مَنْ مِنّا لم يخبر لذة
السباحة أيام الطفولة ، ولذة العبث بالطين المخلوط بالماء ، ولذة الخوض بالأقدام
العارية في مسنتقعات الماء أو تجمعاته في كل مكان ، أو لذة التراشق بالماء في حر
الهجير!
الماء مركب كيميائي يحدث نتيجة اتحاد ذرتين من الهيدروجين مع ذرة من
الاوكسجين ، وهذا التركيب الكيميائي يمنح الماء خواصه التي تجعله فريداً ومتميزاً
كل التميز عن كل السوائل والأشياء في الطبيعة . فهو السائل الوحيد الذي لا لون له
ولا طعم ولا رائحة ، وهو السائل الوحيد الذي يوجد على سطح الكرة الأرضية في حالاته
الثلاث : السائلة ، والمتجمدة ، والغازية وجميع هذه الحالات توجد في حالة توزان من
الناحية الثيرمودينامية . وهو المركب الوحيد الذي ينكمش بالحرارة ويتمدد بالبرودة
عكس جميع الأشياء في الطبيعة[2] .
الماء أيضاً سائلٌ شفافٌ راقراق يتمتع بكونه أعلى السوائل على الاطلاق في خاصية
التوتر السطحي وهو مقدار تماسك الذرات عندما تشكل سطحاً يقع عليه فعل الضغط الجوي
. الماء أيضا هو السائل الوحيد الذي يخلو من السعرات الحرارية ، فهو يحوي صفراً من
السعرات . الماءُ أيضاً أحد أقوى المذيبات في الطبيعة حيث تنحل فيه وتتخلله وتذوب
فيه كثير من المواد الصلبة كالسكر والملح والأصباغ وعدد كبير من العناصر والمركبات
في الطبيعة.
وفي عالم ما وراء الطبيعة ، وفي الوعي الجمعي للناس في مختلف المجتمعات كان
الماء أحد أسرار الوجود ، وهو اكسير النمو ، وسر الحياة الأبدي ، قال الله تعالى
في محكم كتابه " إنا خلقنا من الماء كل شيىء حي" . وفي التراث الفكري
لكثير من الشعوب دارت حول الماء كثير من الأساطير والمعتقدات والرموز والطقوس التي
صورت الماء كمصدر لمادة ثرة ارتبطت بها منظومة كبرى من الخبرات الانسانية ، وكان
الماء على الدوام عنصراً من أقوى العناصر في الطبيعة التي تحكمت في حياة الناس او
مصائرهم في بعض الأحيان . فكان الماء في طائفة منها طوفاناً أبدل أقواماً بأقوام ،
وانتقى الناجون زوجين من بعض الكائنات الحية لتعيد إعمار الكون بهذه الكائنات
المختارة من جديد. وكان الماء غيثاً تحمله المعصرات معها الى أرض جدباء فينبت فيها
الشجر والنبات وحب الحصيد. وكان الماء طهوراً يغسل الأدران والنجاسات والذنوب ،
فأصبح الغُسْلُ طقساً تمارسه كثير من الجماعات الانسانية في الانهار والمعابد
والمشافي والبيوت وفي الحمامات العامة في بعض المجتمعات . وكان الماء بركة تشفي من
الامراض والاسقام وتعيد للجسد والروح العافية والصحة والشفاء كما في ماء زمزم ، وكان
الماء حمّالاً للروح ، فدارت حول سوائل الجسم الانساني كالعرق والدموع والدم
والبول والمني والريق واللعاب والحليب كثير جداً من المعتقدات التي ربطت بينه وبين
الروح[3] في
جميع المجتمعات الانسانية على وجه العموم.
وكان البحث عن الماء والترحال
الدائم من أجل الحصول عليه في الديار التي يشح فيها الماء قد أملى على إنسان الصحراوات
في مختلف القارات والبقاع الجافة في العالم أن يعيش بدوياً متنقلاً مترحلاً غير
مستقر في مكان واحد . وأصبحت البداوة وطول الظعن والترحال أسلوباً من أساليب
الحياة الذي استمر آماداً طويلة من الزمن تقارب خمسة الآف عام كما في الصحراوات
العربية ، كما خلق طول الترحال وعدم
الاستقرار نُظُماً ثقافية Cultural Institutions خاصة ، وتراث ثقافي حوى مجموعات متماسكة من القيم والاخلاق والمعايير
والمتواضعات الاجتماعية والتقاليد والاعراف والتراث الشفاهي واساليب النظر الى
الحياة والعالم بحيث شكل هذا الميراث الثقافي كتلة تمايزت كل التمايز عن ثقافات
المناطق المتحضرة في المدن ومناطق الاستقرار في العالم . هذا التمايز أصبح الآن يُعرف
"بالنسبية الاجتماعية" والتي تعبر عن اختلاف هذه الثقافة البدوية الأصول
في بنيتها الفكرية وفي توجهاتها السلوكية ليس فقط في الواقع اليومي الواعي ولكنها اندغمت
في أقصى طبقات اللاوعي الجمعي لهذه الجماعات[4] ، كما
واثبتت هذه الثقافة حضورها الدائم في معظم ما يحويه الانتاج الفكري والسلوكي لهذه
الجماعات في الوقت الحاضر رغم زوال كل شروطها المادية التي كانت عليها في السابق .
عاش الماء أحقاباً من الزمن الغابر
، وربما ملايين السنين على سطح الكرة الأرضية حراً لم يعرف الأسر أو العبودية .
كان يجري في الانهار والشعاب والمنخفضات الارضية دون سدودٍ أو عوائق أو محاجر،
وكان يهطل سيولا تتخلل جوف الأرض فينحدر إلى الثنايا السفلى المتعددة من طبقات
الأرض ويستقر هناك مختاراً هذا الملاذ البعيد المنعزل في ظلمة الغياهب القارة في
أعماق الأرض. ثم جاءت الحداثة الاوربية لتغير وجه الطبيعة ، ولتحدث ندوباً وآثاراً
في وجه الأرض يصعب أن تندمل . فتحول الماء من هبة الطبيعة إلى مصدر للنزاع والحروب
بين الدول في محاولات للسيطرة والاحتياز والاستثمار بالقوة . وتحول الماء من غيث
عفوي تحمله الرياح من بخار البحار والمحيطات لينزل مطراً مباركاً تزهو به الأرض
وتزدهر به الحياة بالنبات والأخضرار والخصب إلى أمطار صناعية أو حمضية تحمل
الأحماض والسموم والأدران وأوساخ المصانع وعوادم السيارات لترتكس بها إلى الأرض
مرة أخرى . وامتدت يد الحداثة الطولى إلى
الماء المختبىء في الجوف العميق من الأرض لتخرجه بتكاليف عالية ليتم هدره رخيصاً غير ذا قيمة لتترك الأجيال القادمة من
البشر مهددة بالظمأ المحقق في فيافي الصحراء المقفرة من كل
وسيلة للحياة .
حاصرت الحداثة الماء بكل أنواع الحصار ليتم تسليعه وتصنيعه وتسويقه وبيعه
واستهلاكه ، فصار الماء المعبأ في قوارير أحد أشكال الانتاج التجاري الذي أدمنا
على الاعتياد عليه دون أن نتوقف لحظة للتفكير فيه . ثقافة الماء المعلب في قوارير
هذه قد استهوتنا كثيراً حيث يعتقد
غالبيتنا ( اعتقاداً لا يأتيه الشك من بين يديه ولا من خلفه) بأن الحداثة هي الوجه
الأكمل للحياة ، وبأن المعاصرة في كل أشكالها وصورها ليست الا تمام النعمة التي
منّ بها علينا الله رب العالمين . وهكذا نقلنا عادة شرب الماء المعبأ في قوارير من
أرض الوطن إلى الملحقية في أمريكا .
فهذا هو المبنى الجديد للملحقية يكاد يخلو إلاّ من نافورة ماء واحدة في كل
طابق ، ونافورة واحدة لا شك لا تتناسب مع عدد الموظفين والموظفات في كل طابق
، كما لا يتوفر لها صيانة تتوائم مع
وظيفتها كمصدر نظيف ورخيص للماء البارد الصالح للشرب . فهي في أغلب الاحوال معطلة
، ماؤها آسنٌ أو ساخن ، وتبدو مهجورة تماماً إلاّ من بعض الزوار وخاصة من الأطفال
الذين يدفعهم الفضول الى دفع اجسادهم الصغيره نحو مفتاح دفع الماء ، فتجدهم
يتصايحون جذلا برشق الماء المندفع نحو وجوههم البريئة . وليس بمستغرب أن ترى
قوارير الماء الكبيرة جداً تحتل نصف مساحة المطبخ في كل دور من الأدوار، كما أن ماء هذه القوارير يتم غليه واستخدامه في
صنع الشاي أو القهوة ، رغم أن عملية الغلي نفسها كافية للتطهير والتعقيم في كل
الأحوال حتى لو أُخِذَ الماء من الصنبور.
قوارير الماء الصغيرة ( وتصغيرها قويريرات) هي أحد اللمسات المميزة التي
يضيفها الدكتور محمد العمر الى اجتماعات اللجنة ، ويضفى وجودها جواً اجتماعياً على
المكان ، كما تُساعد في بَلّ الحناجر التي يُضمؤها الجدل والنقاش ، وتُجَفف أحبالها
الصوتية محاولات الاقناع ومتابعة الأفكار
ومقارعة الحجج بالبراهين والحجج المقابلة
من هنا وهناك . هذه القويريرات تستقر في كرتون واحد يجمعها في مصفوفات تتظلل تحت
طاولة صغيرة في ركن قاعة الاجتماع . حتى هذا الوقت ، هذه القويريرات متجاورة في
كرتونها هي ملك جماعي عام لكل الذين سيشربونها بعد ذلك ، ولكنها حالما تتوزع على
الأعضاء واحدة واحدة ، حتى يتحول الجمع الى مفرد ، وتتحول هذه القويريرات من ملكية
جماعية مشاعة الى ملكيات فردية محددة ، وتتحول كل قويريرة من نكرة الى معرفة :
فهذه قارورة فلان ، وهذه قارورة فلانة ، كل قارورة يتناولها عضو واحد ، وتلامس شفاه
واحدة ، ويتم افراغها في جوف واحد ، تتحول هذه القوارير كما يقول بعض أعضاء اللجنة
"من العام الى الخاص" !
هذه القويريرات لم تكن قبل ذلك شيئا مذكورا ، فهي قد نشأت أول ما نشأت من
أمشاجٍ من البلاستيك المستخلص من المواد البترولية العضوية المتحللة ، تمت معاملته
كيميائياً ليتحول الى عجينة رقيقة يتم صهرها بدرجات معينة من الحرارة ، ثم يتم
صبها في قوالب اسطوانية مختلفة الاحجام بحسب حاجات المصانع . ثم يتم تتويج رأس كل
قارورة بغطاء بلاستيكي يتم صبه هو الآخر على شكل اسطوانة صغيرة مسننة الجوانب من
الخارج ليسهل فتح القارورة عند الشرب . حتى هذه المرحلة ، كل القوارير متشابهة ،
كلها اسطوانات شفافة ذوات أغطية ، ولكن بعد ملئها بالماء تأتي مرحلة اسباغ الهوية
والاسم ، حيث يُلفّ شريط ورقي عريض حول جسد كل قارورة لتَحمل القارورة اسمها
وهويتها ، ولتنتمي الى منبع الماء الذي عُبأت منه ، ولتُعبر سِماتها الخارجية عن هويتها التي اختيرت لها ، فلون
شريطها الورقي ، وحجمها ، وزنة الماء داخلها ، وما يوجد على الشريط من رسوم أو
صور، وما كُتب عليه من تعليمات كلها عبارة عن مجموعة من الرموز تخاطب عقل المستهلك
دون أن يدري .
قويريرات طاولة الاجتماع هي دائماً من ماركة
" دير باركDeer
Park وتحمل كل قارورة صورة وعل
كبيرAmerican
Elk ( وهو
نوع من الغزلان كبيرة الحجم) يقف مواجهاً للناظر اليه في هيئة مهيبة شامخة ،
تُنبىء عن ذلك قرونه المتفرعة كأغصان شجرة عارية من الأوراق تعانق الأفق الواسع
الرحيب من خلفه ، حيث جسد ذلك الوعل الفارع الفخم يحجب الشمس المشرقة ( او الغاربة
) من خلفه . يقف الوعل مديراً صدغه الأيمن في وقفة تَشي بتركيز انتباهه على الشخص
الناظر إليه من بعيد .
تم
تصميم الوعل في وضع الالتفات لكي يمكن رؤية عينه والتركيز عليها إذ أن طبيعة تركيب
رأس الوعل المتطاول لا تسمح برؤية عينيه معاً بشكل كامل حين يكون مواجهاً للناظر
اليه ، ولهذا تم تصميم الصورة ليكون الوعل ملتفتاً الى اليمين ويستطيع الناظرُ
تركيزَ نظره في عين الوعل . هذه الهيئة التي يظهر فيها الوعل ليست اعتباطية ًولا
عشوائية ، ولكنها صُممت بشكلٍ ذكي ومدروس . فالعين هي نافذة الروح ( كما يقول
الشيخ ابن حزم الاندلسي) ، وهي تنفذ الى الاعماق بطريقة تلقائية لا تحتاج الى جهد
او تكلف ، والمعنى الذي تحمله نظرة العين أبلغ أحياناً من الكلام ، ومن هنا فمجرد
النظر في عين الوعل فذلك يحفز الناظر اليه بشكل لا شعوري للارتباط بتلك المعاني
الخفية التي يرمز اليها ذلك الوعل في علاقته التاريخية القديمة بالانسان.
الوعل ( كنوع من الغزلان) حيوان قد ارتبط
بشكل حميم بذاكرة الانسان منذ القدم ، وارتبط بذاكرة الانسان الصياد على وجه
الخصوص . الوعل يشير الى رمزية الصيد والاحتياز والافتراس ، وهو في الضمير الجمعي
لغالبية بني الانسان يرتبط بعالم الحياة التي عاشها الانسان لآلاف السنين هائماً
على وجهه في البراري يطارد الغزلان ويصطادها ، ويرتبط صيده لها بغبطة الانتصار
وفرض القوة على الطبيعة من جانب ، وباشباع الجوع وانعاش الحياة من جانب آخر. فكما
يرتبط الوعل بالعالم القديم لما قبل الحضارة والاستقرار ، فهو يرتبط أيضاً بعالم القاع
في التكوين النفسي والحضاري للانسان حيث هناك عالمين هما عالم الغرائز وعالم
اللاوعي[5]
.
ومن هنا فليس بمستغربٍ أن تجد الوعل يمثل
حيواناً مقدساً في كثير من الديانات الوثنية في أفريقيا ولدى بعض السكان الأصليين
لأمريكا الشمالية والهند ، وهو حيوان توتم لبعض القبائل يرمز الى الروح المقدسة
للقبيلة ، ويمثل هويتها وتاريخها وطقوسها وقرابينها وثلة من محرماتها التي ترتبط
بروح التوتم . وفي العالم الحديث ، ليس بمستغرب ٍ أيضاً أن تجد صورة الوعل مدموغة
على كثير من المنتجات التجارية كماركات بعض السيارات أو بعض المنتجات الرياضية أو
بعض الاعلانات التجارية عن بضائع مختلفة .
في الصورة نفسها المطبوعة على كل
قويريرة من مياه " دير بارك" تتعانق
زرقة الماء القريب الى الناظر والذي يتدرج في الابتعاد رويداً رويداً الى أن يصل
الى حواف الغابة التي يقف الوعل في منتصفها ليبدأ اللون الأزرق بالتدرج مرة أخرى
آخذاً لون السماء كلون المنتهى في هذه اللوحة الصغيرة . تم تصميم المنظر
برمته في الصورة الملصقة على كل قارورة (
الوعل وماء النبع والغابه ومنظر الافق البعيد) كلها لتأخذ شكل تجويف ، حيث تبدو
الاطراف مرتفعة من اليمين واليسار ، بينما تهبط المنطقة الوسطى حيث يقف الوعل
منتصباً وسط الصورة ، بحيث تشكل الغابة والماء والأفق الحاضن الأساسي للوعل الذي
هو بمثابة مركز الصورة وأهم المكونات فيها .
القارورة أيضاً تشكل رمزاً انثوياً ، وقد عبر العرب الأقدمون عن التماهي
بين المرأة والقارورة ، فروي عن أنس ابن مالك رضي الله عنه أن الرسول صلى الله
عليه وسلم قال لأنجشه وهو يحدو الابل بنساءه " يا أنجشه رفقاً
بالقوارير" . القارورة من ناحية الشكل الخارجي شبيهة بالجسد الانثوي من حيث
الاستدارة والالتفاف والاكتناز ، وكذلك وجود الرأس الصغير نسبياً متمايزاً عن
الاكتاف والجسد . مصدر التشبيه أيضاً يحيل الى كون القارورة تُصنع عادة من الزجاج
أو الفخار ، وهي مواد قابلة للكسر وضعيفة المقاومة . وهاتان الصفتان لا شك قد أُسقطتا
على النساء في منظور الثقافة العربية ذات الأصول البدوية . والأهم من ذلك هو ذلك
التصور الوظيفي الذي يجمع الاثنتين : المرأة والقارورة . فكلا المرأة
والقارورة يُدركان على أنهما أوعية[6] ،
وهذا الربط يشي بوجود نوع من العلاقة الأدواتية Instrumental
thinking في التفكير العربي القديم
، فماهية الشيىء ترتبط بوظيفته وطرق استعماله ، فَكِلاَ المرأة والقارورة تتحدد
وظيفتهما بما تحويه احشاؤهما ، فالقارورة صنعت لتحمل السوائل ودقائق الأشياء
وتحفظها ، أما المرأة فتحمل الجنين في بطنها . ومن الناحية اللغوية ، فالقارورة قد
اشتق اسمها من القرار : قرّ يقرّ فهو قارّ ، أي سَكَنَ بعد حركة ورسى في مكان معين
وثَبُتَ فيه[7]
. فارتباط المرأة بالقرار ( وأحد معانية الاستقرار في مكان واحد ولزومه وهي صفة
أهل الحضر[8] :
انظر الحاشية) يشير الى وعي العرب القدماء بعدم قدرة النساء جسمياً على التنقل والظعن
والترحال الدائم وارتباطهن الجسدي والنفسي بالأماكن ، مع حاجتهن الوظيفية الى
الاسقرار وهو أحد الشروط الأساسية للأمومة وتجديد الحياة بوجود الأطفال الصغار الذين لا يناسبهم كثرة
الظعن والترحال .
وفي الثقافات في المناطق الجافة حول العالم والتي ارتبطت اقتصاداتها تاريخياً
بالغزو والنهب والاعتماد على القوة الجسدية والعنف وبالنظر الى كون النساء يشكلن
عبئاً ثقيلاً في التنقل وفي الاطعام وفي الذود والحماية في حالة الغزو فمن هذه
الظروف تكونت ثقافة ماساجانية Misogynistic
Cultureمن حيث اسقطت
هذه الثقافات كثير من الصفات السالبة والمعيبة على النساء كما ومحقت انسانيتهن
وكرامتهن في كثير من الأعراف والطقوس كوأد البنات ، ونظام العبودية الجنسية (
اتخاذ الاماء والجواري) ، ومعاملتهن معاملة المعاق ذو العقل الناقص ، وأعتبارهن
مجرد أشياء things
ترتبط قيمتهن بقيمة الاستعمال ، ويعاملن معاملة الأشياء التي توهب وتورث وتهدى وتستعمل وترمى
حال الاستغناء عنها . كما تتواشج هذه القيم مع بعض المعتقدات التي تعتبر وجودهن فتنة وعورة ونجاسة
من رجس الشيطان وغيرها ، وأصبح هذا إرث ثقافي لا يحتاج في وضوحه وكمه الى شواهد في
بعض هذه الثقافات .
[2] جرّب (
أو جربي ) أن تضع قارورة مليئة بالماء في مجمدة المنزل ، فسترى أن القارورة قد
انفجرت بعد تجمد الماء وتمدده بالبرودة.
[3] انظر
على سبيل المثال المعتقدات الشعبية الخاصة بالحسد والاصابة بالعين ، فأحد طقوس
المداواة ضد العين هي أن يشرب المحسود من سوائل جسم الحاسد ، فتسود مثلاً في كثير
من مناطق المملكة عادة أن يحمل شخص اناءً فيه ماء ويحضره للمصلين في المسجد
لينقثوا فيه أو يقرأوا مع النفث بعض آيات القرآن ، ويُحمل الماء الى المريض ليشربه
او يدهن فيه على طهارة ( بالماء) بعض أجزاء جسمه . أو تُحضر في بعض الحالات
الملابس الداخلية للشخص الحاسد ، ليتم نقعها وشرب ماءها المختلط بالعرق ، وتدور
حول امكانية احضار هذه الملابس كثير من الحيل والتي يتفنن فيها أهل المحسود في
سبيل الوصول الى هذه الملابس. وفي المعتقدات الاسلامية فإن ارضاع الرضيع من أمرأة
غير أمه البيلوجية يُحدث بنوة وأخوة تشبه التي تترتب على البنوة والأخوة البيلوجية
. ومن المعتقدات أيضاً نظام الأخوة الذي يعتقده بعض الهنود ، حيث يعتقدون أن مزج
دم الشخص بدم شخص آخر يُحدث أخوة بين الاثنين تستمر مدى الحياة. كما أن الريق
أيضاً أحد الموصلات الشعبية الى الروح. ويطول الحديث في هذا الموضوع الشيق.
[4] تذكرنا قصة النبي صالح مع
قومه ثمود بالناقة التي ذكرت بعض المصادر أنها كانت تشرب ماء الآبار والموارد
جميعها في يوم واحد ، ويشرب الناس وحيواناتهم جميعهم في اليوم التالي وهكذا ،
وكانت الناقة تدرّ لبناً يكفي جميع الناس من بني ثمود . انظر القصة في القرآن الكريم
، وشروح المفسرين كتفسير ابن كثير ، وكذلك اهتمام بعض الكتب العلمية بهذه القصة
على وجه الخصوص.
[5] يضيق
المقام كثيراً في هذه العجالة عن التعريج بالشرح والتفصيل لارتباطات الغزال بعالم
اللاوعي لدى الانسان ، وكذلك ارتباطه بالغرائز . مثل هذه الشروح موجودة باستفاضة
في أحد الكتب التي سأطرحها بمشيئة الله للنشرفي المستقبل .
[6] يحيل
هذا الارتباط بين المرأة والقارورة سواء من ناحية الخواص الشكلية والفيزيقية أو من
ناحية الوظيفة الى ظاهرة التشيؤ objectification في الثقافة العربية . وأترك
للقارىء العزيز إكمال تحليل هذا الموضوع .
[7] أنظر في معاجم اللغة العربية
عن معنى كلمة قَرّ ، حيث وردت بمعاني مختلفة ، منها أنها تشير الى الأرض المستقرة غير
الوعرة كقوله تعالى " أَمَّن
جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا
رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (النمل 6) . كما تشير الى الركود والثبات والرسي كما في قول الله تعالى
" ثُمَّ جَعَلْنَاهُ
نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (المؤمنون: 13) ، ثم في قوله تعالى : ( ألم نخلقكم
من ماء مهين . فجعلناه في قرار مكينٍ . إلى قدرٍ معلوم . فقدرنا فنعم القادرين .
ويلٌ يومئذ للمكذبين ( المرسلات 20 ـ 24) . كما يشير القرار الى ما استقر في قاع
الاناء من طعام أو غيره ، كما تشير الى أهل القرار : وهم أهل الحضر المستقرون في
المدن ، والقرار هو ما ينتهي اليه الامر ويثبت ، وقرت العين أي ثبتت وسكنت بعد
حركة .
[8] يعتقد
كثير من المورخين وعلماء الانثروبولوجيا الفيزيقية وعدد من علماء ألآثار وعلماء
النبات أن النساء كُن ّأول من اكتشف الزراعة ، والتي كان اكتشافها فتحاً حقيقياً
في تاريخ الانسانية أنتقل الانسان بموجبها من طور البداوة الى حياة الحضارة
والاستقرار . فحيث يذهب الرجال للصيد تبقى النساء في تجمعات صغيرة حيث كن يقمن
بطمر الحبوب وبذور الثمار في الأرض الرطبة على ضفاف الانهار ( في منطقة الهلال
الخصيب ووادي الرافدين) ، وأدى ذلك الى التحول التدريجي للمجتمعات المتنقلة الى
الاستقرار بجانب المزروعات ، فنشأت أول قرى معروفة في التاريخ وهي أول اشكال التجمعات البشرية المستقرة . ومع
اكتشاف الحبوب والقمح والذرة أصبحت هذه الحبوب أحد اشكال التبادل التجاري مع
الجماعات الأخرى ، مما أدى الى ازدهار زراعتها والى نمو القرى لتتحول الى مدن بعد
ذلك ، حيث شهدت منطقة الهلال الخصيب أقدم الحضارات المستقرة على وجه الكرة الأرضية
على الأطلاق .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق